السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

هذا جزء من موضوع الرضا فى كتاب مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسى
كتاب رائع جداً وأنا عن نفسى كلما شعرت من نفسى عدم الرضا لقضاء الله تذكرت قصة لقمان هذه فاستراح قلبى ربنا ينفعكم بها إن شاء الله

الرضى فيما يخالف الهوى
وإمكان ذلك فى ثلاثة أوجه‏:‏
أحدهما‏:‏ علم المؤمن بأن تدبير الله تعالى خير من تدبيره‏.‏
‏ وقد قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏"ما قضى الله لمؤمن من قضاء إلا كان خيراً له"
وعن سعيد بن المسيب قال‏:‏
قال لقمان لابنه‏:‏ يابنى‏:‏ لا ينزلن بك أمر رضيته أو كرهته، إلا جعلت فى الضمير أن ذلك خير لك‏.‏ قال‏:‏ أما هذه فلا أقدر أن أعطيكها دون أن أعلم ما قلت أنه كما قلت.‏
‏ قال‏:‏ يابنى‏:‏ فإن الله قد بعث نبياً هلم حتى نأتيه، فعنده بيان ما قلت لك‏.‏
قال‏:‏ اذهب بنا إليه
، فخرج على حمار وابنه على حمار، وتزودوا ما يصلحهما، ثم سارا أياماً وليالى، حتى تلقهما مفازة، فأخذا أهبتهما ودخلاها، فسارا ما شاء الله أن يسيرا، حتى تعالى النهار واشتد الحر ونفد الماء والزاد، فاستبطآ حماريهما، فنزلا يمشيان
، فبينما هما كذلك، إذ نظر لقمان أمامه، فإذا هو بسواد ودخان، فقال فى نفسه(1)‏:‏ السواد شجر، والدخان عمران وناس
، فبينما هما كذلك يشهدان، إذ وطئ ابن لقمان على عظم على الطريق، فدخل فى باطن قدمه حتى ظهر من أعلاها، فخر مغشياً عليه، فحانت من لقمان التفاتة، فإذا هو بابنه صريع، فوثب إليه فضمه إلى صدره، واستخرج العظم بأسنانه، وشق عمامة كانت عليه فعصب رجله
، ثم نظر إلى وجه ابنه فذرفت عيناه فقطرت قطرة من دموعه على خد الغلام فانتبه لها، فنظر إلى أبيه يبكى ، فقال يا أبت ‏:‏ أنت تبكى وأنت تقول هذا خير لي ، فكيف ذلك وأنت تبكى‏؟‏‏!‏ وقد نفذ الطعام والشراب وبقيت أنا وأنت فى هذا المكان‏.‏
قال‏:‏ أما بكائي يابنى، فوددت أنى افتديتك بجميع حظي من الدنيا، ولكنى والد ومنى رقة الوالد‏.‏ وأما قولك‏:‏ كيف يكون هذا خيراً لى‏؟‏ فلعل ما صرف عنك أعظم مما ابتليت به، ولعل ما ابتليت به أيسر مما صرف عنك
، فبينما هو يحاوره، إذ نظر لقمان أمامه، فلم ير الدخان والسواد، فقال فى نفسه‏:‏ لم أر شيئاً ، ثم قال‏:‏ قد رأيت، ولكن لعله أن يكون قد أحدث ربى بما رأيت شيئاً
، فبينما هو يتفكر فى ذلك، إذا نظر فإذا هو بشخص قد أقبل على فرس أبلق، عليه ثياب بيض، يمسح الهواء مسحاً‏.‏ فلم يزل يرمقه بعينيه حتى كان منه قريباً، فتوارى عنه ثم صاح به فقال‏:‏ أنت لقمان‏؟‏
قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ما قال لك ابنك هذا السفيه‏؟‏
قال‏:‏ يا عبد الله من أنت‏؟‏، ما لي أسمع كلامك ولا أرى لك وجهك ‏؟‏
قال أنا جبريل ، لا يراني إلا ملك مقرب ، أو نبي مرسل ، لو لا ذلك لرأيتني، فما قال لك ابنك هذا السفيه‏؟
‏ قال‏:‏ أما علمت ذلك‏؟
‏ فقال جبريل‏:‏ مالي بشيء من أمركما علم، إلا أن حفظتكما أتوني، وقد أمرني ربى تعالى بخسف هذه المدينة وما فيها ومن يليها، فأخبروني أنكما تريدان هذه المدينة، فدعوت ربى أن يحبسكما عنى بما شاء، فحبسكما عنى بما ابتلى به ابنك، ولولا ذلك لخسف بكما مع من خسف به
، ثم مسح جبريل عليه السلام بيده على قدم الغلاف، فاستوى قائماً، ومسح يده على الذي كان فيه الطعام فامتلأ طعاماً، ومسح على الذي كان فيه ماء فامتلأ ماء، ثم حملهما وحماريهما فرحل بهما كما يرحل الطير، فإذا هما فى الدار التي خرجا منها بعد أيام وليالى‏.‏



الوجه الثاني‏:‏ الرضى بالألم، لما يتوقع من الثواب المدخر، كالذى يرضى بالفصد والحجامة وشرب الأدوية انتظاراً للشفاء رغم الألم المصاحب لهم‏.‏
الوجه الثالث‏:‏ الرضى به لا لحظ وراءه، بل لكونه مراد المحبوب، فيكون ألذ الأشياء عنده ما فيه رضى محبوبه، ولو كان فى ذلك هلاك نفسه، كما قال بعضهم‏:‏
………………… فما لجرح إذا أرضاكم ألم‏.‏
فالحب يستولي بحيث يدهش عن إدراك الألم، ولا ينبغي أن ينكر ذلك من فقده من نفسه، لأنه إنما فقده لفقد سبية، وهو فرط حبه، ومن لم يذق طعم الحب لم يعرف عجائبه، ولعمري إن من فقد السمع أنكر لذة الألحان والنغمات، فمن فقد القلب، فلابد أن ينكر هذه اللذات التي لا مظنة لها سوى القلب‏.‏

‏‏‏(1) لم يُحدث ابنه بما رأى فالحكيم عقله أمام لسانه قليل الكلام وقد قيل للقمان الحكيم‏:‏ ما بلغ من حكمتك‏؟‏ قال‏:‏ لا أسأل عما كفيته، ولا أتكلم بما لا يعنيني‏.‏ وقد روى أنه دخل على دواء عليه السلام وهو يسرد درعاً، فجعل يتعجب مما رأى، فأراد أن يسأله عن ذلك، فمنعته حكمته فأمسك، فلما فرغ داود عليه السلام، قام ولبس الدرع ثم قال‏:‏ نعم الدرع للحرب‏.‏ فقال لقمان‏:‏ الصمت حكم وقليل فاعله‏.‏
لا تنسونا فى خالص دعائكم
أختكم
منى