المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشاعر / أمل دنقل



Anfas Elfajer
17/06/2012, 07:16 PM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/11337121084.gif (http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/11337121084.gif)






الشاعر / أمل دنقل
_________________

ولادته

هو محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل. ولد أمل دنقل عام 1940م في أسرة صعيدية بقرية القلعة ،مركز قفط على مسافة قريبة من مدينة قنا في صعيد مصر، وقد كان والده عالماً من علماء الأزهر الشريف مما أثر في شخصية أمل دنقل وقصائده بشكل واضح.

سمي أمل دنقل بهذا الاسم لانه ولد بنفس السنة التي حصل فيها والده على اجازة العالمية فسماه باسم أمل تيمنا بالنجاح الذي حققه (واسم أمل شائع بالنسبة للبنات في مصر).
أثر والد أمل دنقل عليه

كما ذكرنا بالأعلى كان والده عالماً في الأزهر الشريف وكان هو من ورث عنه أمل دنقل موهبة الشعر فقد كان يكتب الشعر العمودي، وأيضاً كان يمتلك مكتبة ضخمة تضم كتب الفقه والشريعة والتفسير وذخائر التراث العربي مما أثر كثيراً في أمل دنقل وساهم في تكوين اللبنة الأولى للأديب أمل دنقل. فقد أمل دنقل والده وهو في العاشرة من عمره مما أثر عليه كثيراً واكسبه مسحة من الحزن تجدها في كل أشعاره.
حياته

رحل أمل دنقل إلى القاهرة بعد أن أنهى دراسته الثانوية في قنا وفي القاهرة التحق بكلية الآداب ولكنه إنقطع عن الدراسة منذ العام الأول لكي يعمل.

عمل أمل دنقل موظفاً بمحكمة قنا وجمارك السويس والإسكندرية ثم بعد ذلك موظفاً في منظمة التضامن الأفروآسيوي، ولكنه كان دائماً ما يترك العمل وينصرف إلى كتابة الشعر. كمعظم أهل الصعيد، شعر أمل دنقل بالصدمة عند نزوله إلى القاهرة أول مرة، وأثر هذا عليه كثيراً في أشعاره ويظهر هذا واضحاً في اشعاره الأولى.

مخالفاً لمعظم المدارس الشعرية في الخمسينيات إستوحى أمل دنقل قصائده من رموز التراث العربي، وقد كان السائد في هذا الوقت التأثر بالميثولوجيا الغربية عامة واليونانية خاصة. عاصر امل دنقل عصر أحلام العروبة والثورة المصرية مما ساهم في تشكيل نفسيته وقد صدم ككل المصريين بانكسار مصر في عام 1967 وعبر عن صدمته في رائعته "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" ومجموعته "تعليق على ما حدث ".

شاهد أمل دنقل بعينيه النصر وضياعه وصرخ مع كل من صرخوا ضد معاهدة السلام، ووقتها أطلق رائعته "لا تصالح" والتي عبر فيها عن كل ما جال بخاطر كل المصريين، ونجد أيضاً تأثير تلك المعاهدة وأحداث شهر يناير عام 1977م واضحاً في مجموعته "العهد الآتي". كان موقف أمل دنقل من عملية السلام سبباً في اصطدامه في الكثير من المرات بالسلطات المصرية وخاصة ان أشعاره كانت تقال في المظاهرات على ألسن الآلاف.

عبر أمل دنقل عن مصر وصعيدها وناسها، ونجد هذا واضحاً في قصيدته "الجنوبي" في آخر مجموعة شعرية له "أوراق الغرفة 8"، حيث عرف القارئ العربي شعره من خلال ديوانه الأول "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" الصادر عام 1969 الذي جسد فيه إحساس الإنسان العربي بنكسة 1967 وأكد ارتباطه العميق بوعي القارئ ووجدانه.

صدرت له ست مجموعات شعرية هي:

البكاء بين يدي زرقاء اليمامة - بيروت 1969.
تعليق على ما حدث - بيروت 1971.
مقتل القمر - بيروت 1974.
العهد الآتي - بيروت 1975.
أقوال جديدة عن حرب بسوس - القاهرة 1983.
أوراق الغرفة 8 - القاهرة 1983.

مرضه الأخير

أصيب امل دنقل بالسرطان وعانى منه لمدة تقرب من ثلاث سنوات وتتضح معاناته مع المرض في مجموعته "اوراق الغرفة 8" وهو رقم غرفته في المعهد القومي للأورام والذي قضى فيه ما يقارب ال 4 سنوات، وقد عبرت قصيدته السرير عن آخر لحظاته ومعاناته، وهناك أيضاً قصيدته "ضد من" التي تتناول هذا الجانب، والجدير بالذكر أن آخر قصيدة كتبها دنقل هي "الجنوبي".

لم يستطع المرض أن يوقف أمل دنقل عن الشعر حتى قال عنه احمد عبد المعطي حجازي ((انه صراع بين متكافئين، الموت والشعر)).

رحل أمل دنقل عن دنيانا في 21 مايو عام 1983م لتنتهي معاناته في دنيانا مع كل شيء. كانت آخر لحظاته في الحياة برفقة د.جابر عصفور وعبد الرحمن الأبنودي صديق عمره، مستمعاً إلى إحدى الأغاني الصعيدية القديمة، أراد أن تتم دفنته على نفقته لكن أهله تكفلوا بها.
مؤلفات عن أمل دنقل

حسن الغرفي ـ أمل دنقل: عن التجربة والموقف ـ مطابع إفريقيا الشرق، الدار البيضاء 1985.
السماح عبد الله – مختارات من شعر أمل دنقل – مكتبة الأسرة، القاهرة 2005
عبلة الرويني ـ الجنوبي: أمل دنقل ـ مكتبة مدبولي ـ القاهرة 1985.
جابر قميحة ـ التراث الإنساني في شعر أمل دنقل ـ هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان ـ القاهرة 1987.
سيد البحراوي ـ في البحث عن لؤلؤة المستحيل ـ سلسلة "الكتاب الجديد" ـ دار الفكر الجديد ـ بيروت 1988.
نسيم مجلي – أمل دنقل أمير شعراء الرفض، كتاب المواهب القاهرة 1986
عبد السلام المساوي ـ البنيات الدالة في شعر أمل دنقل ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1994.
عِمْ صباحاً أيها الصَّقر المجنَّح: دراسة في شعر أمل دنقل، حلمي سالم.



المصدر : ويكبيديا (http://go.3roos.com/g2vtf0x6qkg)

Anfas Elfajer
17/06/2012, 09:07 PM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/232160/11338882217.jpg


قصيدة : البكاء بين يدي زرقاء اليمامة
____________________________

أيتها العرافة المقدَّسةْ ..
جئتُ إليك .. مثخناً بالطعنات والدماءْ
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة
منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ.
أسأل يا زرقاءْ ..
عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة
عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء
عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاصُ رأسَه .. في لحظة الملامسة !
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء !!
أسأل يا زرقاء ..
عن وقفتي العزلاء بين السيف .. والجدارْ !
عن صرخة المرأة بين السَّبي. والفرارْ ؟
كيف حملتُ العار..
ثم مشيتُ ؟ دون أن أقتل نفسي ؟ ! دون أن أنهار ؟ !
ودون أن يسقط لحمي .. من غبار التربة المدنسة ؟ !
تكلَّمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي ...
لا تغمضي عينيكِ، فالجرذان ..
تلعق من دمي حساءَها .. ولا أردُّها !
تكلمي ... لشدَّ ما أنا مُهان
لا اللَّيل يُخفي عورتي .. كلا ولا الجدران !
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها ..
ولا احتمائي في سحائب الدخان !
.. تقفز حولي طفلةٌ واسعةُ العينين .. عذبةُ المشاكسة
( - كان يَقُصُّ عنك يا صغيرتي .. ونحن في الخنادْق
فنفتح الأزرار في ستراتنا .. ونسند البنادقْ
وحين مات عَطَشاً في الصحَراء المشمسة ..
رطَّب باسمك الشفاه اليابسة ..
وارتخت العينان !)
فأين أخفي وجهيَ المتَّهمَ المدان ؟
والضحكةَ الطروب : ضحكتهُ..
والوجهُ .. والغمازتانْ ! ؟
* * *
أيتها النبية المقدسة ..
لا تسكتي .. فقد سَكَتُّ سَنَةً فَسَنَةً ..
لكي أنال فضلة الأمانْ
قيل ليَ "اخرسْ .."
فخرستُ .. وعميت .. وائتممتُ بالخصيان !
ظللتُ في عبيد ( عبسِ ) أحرس القطعان
أجتزُّ صوفَها ..
أردُّ نوقها ..
أنام في حظائر النسيان
طعاميَ : الكسرةُ .. والماءُ .. وبعض الثمرات اليابسة .
وها أنا في ساعة الطعانْ
ساعةَ أن تخاذل الكماةُ .. والرماةُ .. والفرسانْ
دُعيت للميدان !
أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن ..
أنا الذي لا حولَ لي أو شأن ..
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان ،
أدعى إلى الموت .. ولم أدع الى المجالسة !!
تكلمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي .. تكلمي ..
فها أنا على التراب سائلٌ دمي
وهو ظمئُ .. يطلب المزيدا .
أسائل الصمتَ الذي يخنقني :
" ما للجمال مشيُها وئيدا .. ؟! "
أجندلاً يحملن أم حديدا .. ؟!"
فمن تُرى يصدُقْني ؟
أسائل الركَّع والسجودا
أسائل القيودا :
" ما للجمال مشيُها وئيدا .. ؟! "
" ما للجمال مشيُها وئيدا .. ؟! "
أيتها العَّرافة المقدسة ..
ماذا تفيد الكلمات البائسة ؟
قلتِ لهم ما قلتِ عن قوافل الغبارْ ..
فاتهموا عينيكِ، يا زرقاء، بالبوار !
قلتِ لهم ما قلتِ عن مسيرة الأشجار ..
فاستضحكوا من وهمكِ الثرثار !
وحين فُوجئوا بحدِّ السيف : قايضوا بنا ..
والتمسوا النجاةَ والفرار !
ونحن جرحى القلبِ ،
جرحى الروحِ والفم .
لم يبق إلا الموتُ ..
والحطامُ ..
والدمارْ ..
وصبيةٌ مشرّدون يعبرون آخرَ الأنهارْ
ونسوةٌ يسقن في سلاسل الأسرِ،
وفي ثياب العارْ
مطأطئات الرأس.. لا يملكن إلا الصرخات الناعسة !
ها أنت يا زرقاءْ
وحيدةٌ ... عمياءْ !
وما تزال أغنياتُ الحبِّ .. والأضواءْ
والعرباتُ الفارهاتُ .. والأزياءْ !
فأين أخفي وجهيَ المُشَوَّها
كي لا أعكِّر الصفاء .. الأبله.. المموَّها.
في أعين الرجال والنساءْ !؟
وأنت يا زرقاء ..
وحيدة .. عمياء !
وحيدة .. عمياء !

Anfas Elfajer
17/06/2012, 09:16 PM
عن قصيدة / البكاء بين يدي زرقاء اليمامة
_______________________________

كانت هزيمة يونيو 1967(النكسة) بداية الإنعطافة الحقيقية لدنقل نحو الشهرة ونحو الشعر، وفي الأيام الأولى للنكسة أو الهزيمة كان أمل دنقل يقرأ قصيدة ( البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) قبل النشر وهي قصيدة جريئة أكدت خطواته على طريق الشعر ولم يكن قد بلغ الثلاثين من عمرة بعد، متخذا من الأسطورة رمزا كما عودنا من ذي قبل في كثير من قصائده، وكانت عنواناً لأهم دواوينه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، وكان بعضهم يحذره من نشر القصيدة، وفيما تبقى من عام 1967 وإلى أوائل السبعينات كانت القصيدة على كل لسان، فقد كانت تعبيراً عميقاً وصادقاً عن الموقف

أعادت هذه القصيدة إلى الأذهان مأساة (زرقاء اليمامة) التي حذرت قومها من الخطر القادم فلم يصدقوها، كأنها صوت الابداع الذي كان يحذر من الخطر القادم في العام 1967 (النكسة) فلم يصدقه أحد إلا بعد أن حدثت الكارثة، وإذ أكد (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) التشابه بين الماضي والحاضر.
تأتي التساؤلات في القصيدة لتجسد صوت المواطن العربي الذي ذبحته الهزيمة من جهة، وصوت الشاعر الذي خذلوه بعد أن حذرهم من جهة أخري، فتحدث الأبيات عن ذلك العبد العبسي البائس الذي دعي إلى الميدان والذي لا حول له ولا شأن، فانهزم وخرج من جحيم هزيمته عاجزاً، عارياً، مهاناً، صارخاً، كأنه صدى يجسد ما في داخل كل قارئ عربي للقصيدة في الوقت الذي كتبت فيه، وإذا كان صوت هذا العبد العبسي شاهدا على الهزيمة فإن بكاءه في حضرة زرقاء اليمامة -العرافة المقدسة- شاهد على ما يمكن أن يفعله الشعر في زمن الهزيمة، خصوصا من حيث هي صورة أخرى من هذه العرافة: يرى ما لا يراه الآخرون ويرهص بالكارثة قبل وقوعها، وينطق شهادته عليها وقوعها، ويتولى تعرية الأسباب التي أدت إليها، غير مقتصر على الإدانة السلبية في سعيه إلى استشراف أفق الوعد بالمستقبل الذي يأتي بالخلاص .

وبعد ثلاثة أعوام تقريبا من وقوع الهزيمة التي مزقت حياة العرب المعاصرين رحل جمال عبد الناصر، وكانت وفاته أو بالأصح كان غيابه في الساحة العربية في مثل تلك الظروف الفاجعة هزيمة أخرى، وبعد رحيل عبد الناصر بأربعين يوماً التقى الشعراء العرب من مختلف الأقطار العربية لتأبين الزعيم الراحل وفي الاستراحة الجانبية للقاعة الكبرى للاتحاد الاشتراكي كان عدد من الشعراء والنقاد يقطعون الوقت في انتظار لحظة افتتاح الاحتفال التأبيني...
انفجر أمل في الشعر الحديث بهدوء؛ لكن بنوع مرير من السخرية لم تتوفر كثيراً في هذا الشعر، وصارت هذه الخاصية من أرقى ملامح شعره، فيقول:

(قيل لي أخرس)
فخرست، وعميت وائتممت بالخصيان
ظللت في عبيد "عبس" أحرس القطعان
أجز صوفها
أرد نوقها
أنام في حضائر النسيان
طعامي: الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة
وها أنا في ساعة الطعان
ساعة أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان
دعيت للميدان
أنا الذي ما ذقت لحم الضان
أنا الذي لا حول لي أو شان
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان
أدعى إلي الموت .. ولم أدع إلي المجالسة

يتحدث هذا الجزء من قصيده البكاء بين يدي زرقاء اليمامة عن عبد من عبيد عبس يظل يحرس القطعان، يصل الليل بالنهار في خدمة السادة، طعامه الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة، وحين تقع الواقعة لا يملك هذا العبد سوى التوجه الى (زرقاء اليمامة) التي يعتبرها أمل كاهنه المستقبل ، كي ينفجر في حضرتها شعراً .




المصدر : منتديات نبع الوفاء (http://go.3roos.com/jgm96kzwgd4)

Anfas Elfajer
17/06/2012, 09:19 PM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/232160/01338882217.jpg

قصيدة : ضد من
____________

في غُرَفِ العمليات,
كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ,
لونُ المعاطفِ أبيض,
تاجُ الحكيماتِ أبيضَ, أرديةُ الراهبات,
الملاءاتُ,
لونُ الأسرّةِ, أربطةُ الشاشِ والقُطْن,
قرصُ المنوِّمِ, أُنبوبةُ المَصْلِ,
كوبُ اللَّبن,
كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ.
كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ!
فلماذا إذا متُّ..
يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ..
بشاراتِ لونِ الحِدادْ?
هل لأنَّ السوادْ..
هو لونُ النجاة من الموتِ,
لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ,
***
ضِدُّ منْ..?
ومتى القلبُ - في الخَفَقَانِ - اطْمأَنْ?!
***
بين لونين: أستقبِلُ الأَصدِقاء..
الذينَ يرون سريريَ قبرا
وحياتيَ.. دهرا
وأرى في العيونِ العَميقةِ
لونَ الحقيقةِ
لونَ تُرابِ الوطنْ!

Anfas Elfajer
17/06/2012, 09:22 PM
عن قصيدة / ضد من
________________

في قصيدة "ضد من"، يصور الشاعر أمل دنقل المشهد الأخير نقلاً عن المستشفى الذي عانى على سريره الوحدة مع المرض. بعدها وبعد قصائد المجموعة "أوراق الغرفة 8" أسدلت الستارة على رحلته الإبداعية التي استمرت بضعة وعشرين عاماً. وحياته القصيرة التي توقفت عند سن الثالثة والأربعين.

يلخص دنقل فيها معاناة البشر بقوله "ومتى القلب في الخفقان اطمأن؟"، في القصيدة يحتار دنقل بين السواد والبياض ومدلولاتهما وهو على سرير الموت والمرض، ولكنه يستقر مؤخراً على لون الحقيقة.. لون تراب الوطن.





المصدر : منتدى عنكاوا (http://go.3roos.com/9hjaa20d3k9) , مدونة قفص التحليق (http://go.3roos.com/ovb5mhx563k)

Anfas Elfajer
17/06/2012, 09:25 PM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/11338513238.jpg


قصيدة : زهور
__________

وسلالٌ منَ الورِد,
ألمحُها بينَ إغفاءةٍ وإفاقه
وعلى كلِّ باقةٍ
اسمُ حامِلِها في بِطاقه
***
تَتَحدثُ لي الزَهراتُ الجميلهْ
أن أَعيُنَها اتَّسَعَتْ - دهشةً -
َلحظةَ القَطْف,
َلحظةَ القَصْف
لحظة إعدامها في الخميلهْ!
تَتَحدثُ لي..
أَنها سَقَطتْ منْ على عرشِها في البسَاتين
ثم أَفَاقَتْ على عَرْضِها في زُجاجِ الدكاكينِ, أو بينَ أيدي المُنادين,
حتى اشترَتْها اليدُ المتَفضِّلةُ العابِرهْ
تَتَحدثُ لي..
كيف جاءتْ إليّ..
(وأحزانُها الملَكيةُ ترفع أعناقَها الخضْرَ)
كي تَتَمني ليَ العُمرَ!
وهي تجودُ بأنفاسِها الآخرهْ!!
***
كلُّ باقهْ..
بينَ إغماءة وإفاقهْ
تتنفسُ مِثلِىَ - بالكادِ - ثانيةً.. ثانيهْ
وعلى صدرِها حمَلتْ - راضيهْ...
اسمَ قاتِلها في بطاقهْ!

Anfas Elfajer
17/06/2012, 09:27 PM
عن قصيدة / زهور
_____________

يختار الشاعر موضوع قصيدة "زهور" من موقف حياتي بسيط، قد يكون عابرا؛ فتحدثت القصيدة عن باقات الورد المصفف في سلال مزدانة، إنه لا يراها كذلك، بل إنه يرى في محنتها وقطفها من بستانها وإزالة روح الحياة من بين حناياها مثالا أو معادلا موضوعيا لبؤسه هو/ بؤس الإنسان العربي المسحوق والمهان، المقتول أو المصلوب في بؤس الحياة، وكما أن هذه الزهور تحمل اسم صاحبها، فإن الإنسان العربي كذلك يحمل اسم قاتله في بطاقة.

نشر الشاعر أمل نقل هذه القصيدة في ديوانه الأخير "أوراق الغرفة 8" عام 1983، وجاءت في مرحلة متأخرة من مسيرته الشعرية الحافلة بعدة دواوين، وتعبر القصيدة في المجمل عن حالة الشاعر المتردية التي وصل إليها نتيجة أوضاع سياسية قاهرة، فبعد أن عاش الشاعر ما عاش لم يظفر بيوم، وها هي الحياة تمضي سريعا بذل كبير، وكأن الشاعر يتنبأ في هذه القصيدة بموته، الذي فاجأه في 21/5/1983، إنها اللحظة التي يفقد فيها الإنسان أمل الحياة وأمل التغيير.
قسم الشاعر القصيدة إلى ثلاثة أقسام؛ يمثل المقطع الأول مفتتح النص، وتكون القاف والهاء الساكنة قافية لهذا المقطع، يعرض فيه الشاعر مشهدا عابرا للزهور:

وسلال من الورد
ألمحها بين إغفاءة وإفاقهْ
وعلى كل باقهْ
اسم حاملها في بطاقهْ

أما المقطع الثاني، وهو أطول مقاطع القصيدة، إذ يمتد على مساحة (15) سطرا شعريا من أصل (19) سطرا هي مجموع أسطر القصيدة، وتحاور تلك الزهرات التي رآها في المشهد السابق، فتعبر بدهشة عن قطفها وإسقاطها عن عرشها في بستان نضر، لتصحو على نفسها، وإذا بها تزين واجهات محلات بيع الزهور، وتهان بين أيدي البائعين المتجولين، لتستقر بين أيدي إنسان متفضل، يجود بها على الشاعر متمنيا من خلال هذه الزهور طول العمر، فتهمس هذه الباقة المعذبة في ضمير الشاعر، عن مأساتها "وهي تجود بأنفاسها الأخيرة" .
ويعتمد الشاعر كذلك في هذا النص القصير والمعبر على أسلوب السرد، الذي جعل القصيدة مشهداً قصصيا قصيرا دالا ومكثفا لمعاناة طويلة، مستخدما في ذلك الجمل الفعلية، في زمن ماضٍ، وتحقيقا للنغم الموسيقي، وعناصر الإيقاع الخارجي، فقد بنى الشاعر المقطع الثاني على عدة قواف تبدو برتابة معينة، فجاءت اللام والهاء الساكنة " الخميلهْ/ الجميلهْ" ثم الفاء الساكنة في "القطفْ/ القصفْ" والنون المسبوقة بياء المد " البساتينْ/ المنادينْ" والراء الساكنة " الخضرْ/ الفجرْ" والراء التي تليها الهاء الساكنة" العابرهْ/ الآخرهْ"، ولعل هذا التنوع الموسيقي الكثيف يدل على الاحتدام العاطفي في نفس الشاعر، وجاء على لسان تلكم الزهور.
ثم تنتهي القصيدة بمثل ما بدئت به، جاعلا الشاعر من تجربة الزهرة تجربة له، ولكل إنسان عربي يموت على امتداد الوطن العربي، إن لم يمت فيزيائيا إلا أنه في حكم الميت، فالزهرة التي لفظت أنفاسها الأخيرة بين يديه، يتنفس بالكاد مثلها، فقد حملت اسم قاتلها، وهو كذلك سيحمل يوما اسم قاتله، ويعلقه على صدره، وكأنه يشير من طرف خفي بعلاقة المثقف مع السلطة، فإن استسلم المثقف للسلطة فقد باء بالموت.
وقد بُنيَ هذا المقطع على نسق مفتتح القصيدة؛ فقد جاء المقطع قـصيرا دالا مكثفا ينضح بالنغــم، بنبرة صوتية يحس الإنسان فيها بالمرارة:
كل باقهْ
بين إغفاءة وإفاقهْ
تتنفس مثلي بالكاد ثانية ثانيهْ
وعلى صدرها حملت راضيهْ
اسم قاتلها في بطاقهْ
وهكذا فقد نجح الشاعر عبر هذا النص ببناء صورة شعرية مشهدية، مستعينا ببعض الصور الجزئية، فقد نقل تشخيص الزهرة في القصيدة الزهرة من مجرد عنصر طبيعي إلى معادل موضوعي ورمزي للإنسان العربي المقهور، الذي لم يجد شيئا يواسيه سوى هذه الزهرة التي تتمنى له طول العمر، وعلى الرغم من النفَس الساخر في العبارة، إلا أنها قد تعبر من جانب آخر عن الحزن الذي يحياه الإنسان العربي والشيء العربي، وبالتالي الحياة العربية بمجملها، جراء أوضاع لا يحسد عليها، مما جعل الزهرة تسلم أنفاسها الأخيرة بين يدي الشاعر الذي عرف مأساتها وعبرت هي بالتالي عن مأساته، وجاءت القوافي الساكنة لتحمل تلك المأساة؛ فما السكون إلا تجلٍّ من تجليات الموت.




المصدر : مدونة كتاب من أجل الحرية (http://go.3roos.com/xt5ipe2lcjq)

Anfas Elfajer
17/06/2012, 09:30 PM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/01338513238.jpg

قصيدة : الجنوبي
____________

صورة
هل أنا كنت طفلاً
أم أن الذي كان طفلاً سواي
هذه الصورة العائلية
كان أبي جالساً، وأنا واقفُ .. تتدلى يداي
رفسة من فرس
تركت في جبيني شجاً، وعلَّمت القلب أن يحترس
أتذكر
سال دمي
أتذكر
مات أبي نازفاً
أتذكر
هذا الطريق إلى قبره
أتذكر
أختي الصغيرة ذات الربيعين
لا أتذكر حتى الطريق إلى قبرها
المنطمس
أو كان الصبي الصغير أنا ؟
أم ترى كان غيري ؟
أحدق
لكن تلك الملامح ذات العذوبة
لا تنتمي الآن لي
و العيون التي تترقرق بالطيبة
الآن لا تنتمي لي
صرتُ عني غريباً
ولم يتبق من السنوات الغريبة
الا صدى اسمي
وأسماء من أتذكرهم -فجأة-
بين أعمدة النعي
أولئك الغامضون : رفاق صباي
يقبلون من الصمت وجها فوجها فيجتمع الشمل كل صباح
لكي نأتنس.
وجه
كان يسكن قلبي
وأسكن غرفته
نتقاسم نصف السرير
ونصف الرغيف
ونصف اللفافة
والكتب المستعارة
هجرته حبيبته في الصباح فمزق شريانه في المساء
ولكنه يعد يومين مزق صورتها
واندهش.
خاض حربين بين جنود المظلات
لم ينخدش
واستراح من الحرب
عاد ليسكن بيتاً جديداً
ويكسب قوتاً جديدا
يدخن علبة تبغ بكاملها
ويجادل أصحابه حول أبخرة الشاي
لكنه لا يطيل الزيارة
عندما احتقنت لوزتاه، استشار الطبيب
وفي غرفة العمليات
لم يصطحب أحداً غير خف
وأنبوبة لقياس الحرارة.
فجأة مات !
لم يحتمل قلبه سريان المخدر
وانسحبت من على وجهه سنوات العذابات
عاد كما كان طفلاً
سيشاركني في سريري
وفي كسرة الخبز، والتبغ
لكنه لا يشاركني .. في المرارة.
وجه
ومن أقاصي الجنوب أتى،
عاملاً للبناء
كان يصعد "سقالة" ويغني لهذا الفضاء
كنت أجلس خارج مقهى قريب
وبالأعين الشاردة
كنت أقرأ نصف الصحيفة
والنصف أخفي به وسخ المائدة
لم أجد غير عينين لا تبصران
وخيط الدماء.
وانحنيت عليه أجس يده
قال آخر : لا فائدة
صار نصف الصحيفة كل الغطاء
و أنا ... في العراء
وجه
ليت أسماء تعرف أن أباها صعد
لم يمت
هل يموت الذي كان يحيا
كأن الحياة أبد
وكأن الشراب نفد
و كأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد
عاش منتصباً، بينما
ينحني القلب يبحث عما فقد.
ليت "أسماء"
تعرف أن أباها الذي
حفظ الحب والأصدقاء تصاويره
وهو يضحك
وهو يفكر
وهو يفتش عما يقيم الأود .
ليت "أسماء" تعرف أن البنات الجميلات
خبأنه بين أوراقهن
وعلمنه أن يسير
ولا يلتقي بأحد .
مرآة
-هل تريد قليلاً من البحر ؟
-إن الجنوبي لا يطمئن إلى اثنين يا سيدي
البحر و المرأة الكاذبة.
-سوف آتيك بالرمل منه
وتلاشى به الظل شيئاً فشيئاً
فلم أستبنه.
.
.
-هل تريد قليلاً من الخمر؟
-إن الجنوبي يا سيدي يتهيب شيئين :
قنينة الخمر و الآلة الحاسبة.
-سوف آتيك بالثلج منه
وتلاشى به الظل شيئاً فشيئاً
فلم أستبنه
.
.
بعدما لم أجد صاحبي
لم يعد واحد منهما لي بشيئ
-هل نريد قليلاً من الصبر ؟
-لا ..
فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه
يشتهي أن يلاقي اثنتين:
الحقيقة و الأوجه الغائبة

Anfas Elfajer
17/06/2012, 10:16 PM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/21338513238.jpg

قصيدة : الطيور
____________

(1)
الطيورُ مُشردةٌ في السَّموات,
ليسَ لها أن تحطَّ على الأرضِ,
ليسَ لها غيرَ أن تتقاذفَها فلواتُ الرّياح!
ربما تتنزلُ..
كي تَستريحَ دقائقَ..
فوق النخيلِ - النجيلِ - التماثيلِ -
أعمِدةِ الكهرباء -
حوافِ الشبابيكِ والمشربيَّاتِ
والأَسْطحِ الخرَسانية.
(اهدأ, ليلتقطَ القلبُ تنهيدةً,
والفمُ العذبُ تغريدةً
والقطِ الرزق..)
سُرعانَ ما تتفزّعُ..
من نقلةِ الرِّجْل,
من نبلةِ الطّفلِ,
من ميلةِ الظلُّ عبرَ الحوائط,
من حَصوات الصَّياح!)
***
الطيورُ معلّقةٌ في السموات
ما بين أنسجةِ العَنكبوتِ الفَضائيِّ: للريح
مرشوقةٌ في امتدادِ السِّهام المُضيئةِ
للشمس,
(رفرفْ..
فليسَ أمامَك -
والبشرُ المستبيحونَ والمستباحونَ: صاحون -
ليس أمامك غيرُ الفرارْ..
الفرارُ الذي يتجدّد. كُلَّ صباح!
(2)
والطيورُ التي أقعدتْها مخالَطةُ الناس,
مرتْ طمأنينةُ العَيشِ فَوقَ مناسِرِها..
فانتخَتْ,
وبأعينِها.. فارتخَتْ,
وارتضتْ أن تُقأقَىَء حولَ الطَّعامِ المتاحْ
ما الذي يَتَبقى لهَا.. غيرُ سَكينةِ الذَّبح,
غيرُ انتظارِ النهايه
إن اليدَ الآدميةَ.. واهبةَ القمح
تعرفُ كيفَ تَسنُّ السِّلاح!
(3)
الطيورُ.. الطيورْ
تحتوي الأرضُ جُثمانَها.. في السُّقوطِ الأخيرْ!
والطُّيُورُ التي لا تَطيرْ..
طوتِ الريشَ, واستَسلَمتْ
هل تُرى علِمتْ
أن عُمرَ الجنَاحِ قصيرٌ.. قصيرْ?!
الجناحُ حَياة
والجناحُ رَدى.
والجناحُ نجاة.
والجناحُ.. سُدى!

v0vxyyzWHhE

Anfas Elfajer
17/06/2012, 10:19 PM
عن قصيدة / الطيور
____________

تمهيد

نص "الطيور" للشاعر المصري الراحل" أمل دنقل" كان قد كتب في مرحلة عصيبة من حياته وهي مرحلة مرضه، حيث كتبه الشاعر في العام 1981 أي قبل وفاته التي حدثت في مايو1983 ومن هنا تتأتى أهمية النص بوصفه حالة إسقاطية أو مرآوية لما يحدث في عالم الطيور فيسقطه الشاعر أو يعكسه على عالمه ومن ثم عالم البشر، والنص مكتوب بطريقة شفافة وتكاد تكون صادقة فليس أمام إنسان يموت سوى الشفافية واليقينية المبدعة، إن طيور أمل دنقل وحسب ما سوف نفصله لاحقا كناية عن مصير الإنسان ورحلته الوجودية، ما يواجه الطيور يجانس ما يواجهه الإنسان، فالهجرة والتشرد أو حتى التدجين والقتل والسجن هي عوالم تعيشها الطيور ويعيشها الإنسان على السواء، وهو ما يلمح إليه النص بلغة شعرية شفيفة، إن شعرنة عالم الطيور بهذه اللغة المبدعة، وإسقاطها على عالم الشاعر،هو ما يلتقطه الشاعر أمل دنقل وهو ما سنبينه في قراءتنا لهذا النص.

المتن

النص على مستو التكنيك متكون من ثلاثة مقاطع مرقمة بالأرقام 1، 2، 3 على التوالي، المقطع الأول يتكون من جزأين، أما الثاني والثالث فهما ينطويان على جزء واحد لكل منهما، ولو بدأنا بالمقطع الأول(رقم 1)، سنقرأ عن طيور يسميها الشاعر "مشردة"، هذه الطيور المحلقة عاليا على شكل أسراب أو فرادى لا وطن لها وهي مندفعة بشكل غريزي إلى المجهول، إنها مشردة لا مكان لها على الأرض وبيوتها هناك في أعالي الرياح، حيث الرياح فراشا ودثارا، والرياح وطنا والصفير قرينا، إنها الطيور المهاجرة، حيث العلى والرحيل القصي، هنالك وإذ تلمحها عين الشاعر، تكون أنامله طقسا ويلهو على خافقيه المدى، إنها صورة للحراك البشري في، في كافة الأزمان والعصور، وهي لما تنزل الأرض لا للمكوث بل هي كالفرسان تترجل للاستراحة قليلا ليس إلا:-

الطيور مشردة في السموات ،
ليس لها أن تحط على الأرض،
ليس لها غير أن تتقاذفها فلوات الرياح
ربما تتنزلُ..
كي تستريح دقائق..

الطيور لا يمكنها أن تنزل أنى تشاء، بل هنالك أمكنة معينة هي ما يجب أن تقف وتستريح عليها، إن هذه الطيور تختار الأمكنة المرتفعة عن سطح الأرض لأنها الأكثر أمنا لها، لأن دقائق الاستراحة هذه قد تتحول إلى موت أكيد ، لذا فهي تقف على التماثيل أو فوق الأشجار أو على سطوح المباني:-

فوق النخيل-النجيل-التماثيل-
أعمدة الكهرباء-
حواف الشبابيك والمشربيات
والأسطح الخرسانية

إن نزول هذه الطيور يتوسله الشاعر، فهي بالرغم مما يثيره وجودها من شجن في نفسه من خلال جمال أشكالها وأصواتها، إلا أنها سوف لن تكون بمنجى عن الأشرار (القطط هنا)، إذن فإن نزولها مرغوب به ليس حبا بها ولكن هنالك من يستغلها لمآربه:-

( اهدأ ، ليلتقط القلب تنهيدة،
والفم العذب تغريدة
والقط الرزق..)

إن الشاعر وكأنه يغبط الطيور على ما هي فيه ،لكنه يستشعر الخوف الذي تعيشه الطيور المهاجرة وهي تنزل للاستراحة، فهي عندما تنزل عالم البشر فإنها تكون مرتعبة وتفزع من أية حركة غير عادية سواء كانت خفق حذاء أو حجر تطلقه كف طفل صغير أو حتى عندما يتحول الظل من حائط إلى آخر، فضلا عن تعالي الأصوات التي يسميها الشاعر "حصوات الصياح" :-

سرعان ما تتفزعُ ..
من نقلة الرجل،
من نبلة الطفل،
من ميلة الظل عبر الحوائط،
من حصوات الصياح!

في الجزء الثاني يلتفت الشاعر إلى نوع ثان من الطيور وهي الطيور الباقية في بلدانها ويصفها بالطيور المعلقة في السماء:-

الطيور معلقة في السماوات
ما بين أنسجة العنكبوت الفضائي: للريح
مرشوقة في امتداد السهام المضيئة
للشمس،

إن هذه الطيور والتي ليس لها القدرة على الهجرة هي طيور معلقة في سماء بلدانها، وكأنها ثريات تتلاعب بها الأنسجة العنكبوتية للريح وتتقافز من على أجسادها السهام المضيئة لأشعة الشمس، إن هذا النوع من الطيور كناية للناس التي لا تستطيع مغادرة أوطانها فهي لا تستطيع أن تعيش في وطن آخر، أما لضيق ذات اليد أو حبا في البقاء في وطنها الأم، ولكن مع ذلك فإن الشاعر يطالبها بالحركة والطيران :-

(رفرفْ..
فليس أمامك-
والبشر المستبيحون والمستباحون:صاحون-
ليس أمامك غير الفرار..
الفرار الذي يتجدد.كل صباح!)

إن المقطع أعلاه مكتوب بين قوسين وهو كمن يخاطب نفسه عندما وجد نفسه بين أناس ارتضت أن تكون مابين مستبيح ومستباح، إن الشاعر وجد أن لا طائل من مصير ليس له القدرة على تغييره ،وليس هنالك سوى الفرار ، وهو قرار يكاد يتجدد كل صباح.
على المستوى التقني نقرأ تشاكلا بين جزأي المقطع الأول، فهنالك وصف ثم استدراك،أي هنالك إخبار عن حالة ثم استدراك بصيغة المخاطب وهو متمثل في المقطعين الذين يبدءان بفعلي الأمر(اهدأ وكذلك رفرفْ)، ولكن كما أسلفنا فإن المقطع الأول يتكلم عن طيور مشردة (مهاجرة) ليس لها وطن أو لفظتها أوطانها وفي الجزء الثاني يتكلم عن طيور معلقة لا تبارح مكانها ولكنها تمارس لعبة مزرية بحق نفسها تتناوب فيها على دور الجلاد والضحية.
في المقطع الثاني نقرأ عن طيور من نوع آخر، وهي طيور لا تطير وليس لها القدرة على الطيران ،هذه الطيور هي الطيور الداجنة، وهي ليس لها قدرة على تغيير مصيرها، إذ إن مصيرها بيد الآخرين، وهي سعيدة على ماهي فيه، وراضية على أسرها بسعادة غامرة:-

والطيور التي أقعدتها مخالطة الناس،
مرت طمأنينة العيش فوق منا سرها..
فانتفخت،
وبأعينها.. فارتخت،
وارتضت أن تقاقئ حول الطعام المتاح

إن هذا النوع من الطيور هو كناية للبشر العبيد والذين ليس لهم القدرة على تغيير واقعهم، إن الشاعر أمل دنقل لم يعطهم اسما بل أعطاهم صفة تأتي بعد أداة وصل تصغيرا لهم، إن هذا النوع من الطيور أرتضى مخالطة الناس (كناية عن السادة والأقوياء) ‘وبالتالي ارتضوا ما يجود به عليهم هؤلاء الأقوياء، إذ إن منا سرها(مناقيرها) مطمئنة فلن تستخدمها في صيد الغذاء بل تستخدمها فقط في تناول الغذاء الذي يأتي إليها جاهزا وما عليها سوى أن تقاقئ حوله إلى أن يحين موعد ذبحها:-

مالذي يتبقى لها.. غير سكينة الذبح،
غير انتظار النهاية
إن اليد الآدمية..واهبة القمح
تعرف كيف تسن السلاح

إن هكذا نوع من الطيور ليس له وظيفة سوى أن يكون طعاما، هي طيور ليست كأي طيور، كما أن خير نهاية لها أن تموت ذبحاً، إذ إن اليد الآدمية التي تطش القمح لها كل يوم هي ذاته اليد التي ستمرر السكين على رقبتها ذات يوم، والشاعر أمل دنقل لا يريد للبشر بأية حال من الأحوال أن يكونوا من هذا النوع من الطيور، إذ إن الروح الشاعرة والمتوثبة فيه تقول له (رفرف)، فمكان الشاعر بين الأرض والسماء، أو كما يقول هايدغر في "البين بين".
في المقطع الثالث والأخير من هذا النص، يلخص الشاعر الدراما الوجودية للمخلوقات متمثلة بالطيور والتي هي قطعا تشاكل الدراما الإنسانية في تفاصيلها حيث يقول:-

الطيور..الطيور
تحتوي الأرض جثمانها..في السقوط الأخير!
والطيور التي لا تطير..
طوت الريش واستسلمت

إن ما يطلق عليه الشاعر بكل حب"الطيور..الطيور" في المقطع أعلاه، هي الطيور التي لا يأكلها أحد، ولن تكون بأي حال من الأحوال طعاما للآخرين، هي الطيور الحرة السعيدة بحريتها بالرغم مما تعانيه في تفاصيل حياتها، هي الطيور التي تموت في الفضاء وتسقط كمحارب شجاع في رحلتها الحياتية الأسطورية، هذه الطيور سترحب بها الأرض وتدفن كما يدفن الفرسان..وعلى عكسها هنالك الطيور التي لا تطير، فهذه طيور داجنة ومستسلمة ومذعنة وليس لها مكان لتدفن فيه بل هي ستصير طعاما للآخرين، إن الشاعر ليتساءل هنا عن هذا الاختلاف بين فصيلتين من الطيور حين يقول:-

هل ترى علمت
أن عمر الجناح قصيرٌ..قصيرْ؟!

إنه تساؤل وجودي عميق يطلقه أمل دنقل، وهو كناية عن قصر الحياة وتهافتها، ولما كانت الحياة قصيرة أليس الأجدى أن نعيش حياتنا بطريقة محترمة وغير مهينة، وما المانع إذا كان لكل طائر جناح:-

الجناح حياة
الجناح ردى
والجناح نجاة
والجناحُ..سدى!

إذن فالجناح يمثل مصيرا للطائر،وهو كناية لقدرة الإنسان وطموحه..فقد يكون هذا الجناح حياة كريمة أو لا يكون وقد يكون ميتة كريمة أو يكون ميتة حقيرة، قد يكون نجاة وقلوع نحو المجد، إذن فالجناح حسب أمل دنقل يمثل ثوبا(سدى) نلبسه وننزعه بأيدينا ..وكل سيختار الميتة تناسبه، مع الإقرار بحقيقة أنها قد لا تكون الميتة التي ستحدث فعلا.
في الأخير نقول إن هذا النص المرهف للشاعر أمل دنقل يعبر عن صراع الإنسان مع الحياة ،وإذا علمنا بأن الشاعر كان قد كتبه في أيام محنته ومرضه، فهو يحيل إلى رسالة يريد الشاعر إيصالها للمتلقي والقارئ في كل حين، وهي رسالة معبرة وتدل على روح شاعرة وشفافة تصارع الموت بكل نبل، إن الشاعر أمل دنقل كان طائرا معلقا ومرفرفا في سماء مصر عاش ومات فيها،إلا أن عمر جناحه قصير، فأورثه حياة بعد حياته ومكانة يستحقها.




المصدر : أدب فن (http://go.3roos.com/7rcuwfm0j0p)

Anfas Elfajer
17/06/2012, 10:29 PM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/31338513238.jpg

قصيدة : مقابلة خاصة مع ابن نوح
__________________________

جاء طوفانُ نوحْ!
المدينةُ تغْرقُ شيئاً.. فشيئاً
تفرُّ العصافيرُ,
والماءُ يعلو.
على دَرَجاتِ البيوتِ
- الحوانيتِ -
- مَبْنى البريدِ -
- البنوكِ -
- التماثيلِ (أجدادِنا الخالدين) -
- المعابدِ -
- أجْوِلةِ القَمْح -
- مستشفياتِ الولادةِ -
- بوابةِ السِّجنِ -
- دارِ الولايةِ -
أروقةِ الثّكناتِ الحَصينهْ.
العصافيرُ تجلو..
رويداً..
رويدا..
ويطفو الإوز على الماء,
يطفو الأثاثُ..
ولُعبةُ طفل..
وشَهقةُ أمٍ حَزينه
الصَّبايا يُلوّحن فوقَ السُطوحْ!
جاءَ طوفانُ نوحْ.
هاهمُ "الحكماءُ" يفرّونَ نحوَ السَّفينهْ
المغنونَ- سائس خيل الأمير- المرابونَ- قاضى القضاةِ
(.. ومملوكُهُ!) -
حاملُ السيفُ - راقصةُ المعبدِ
(ابتهجَت عندما انتشلتْ شعرَها المُسْتعارْ)
- جباةُ الضرائبِ - مستوردو شَحناتِ السّلاحِ -
عشيقُ الأميرةِ في سمْتِه الأنثوي الصَّبوحْ!
جاءَ طوفان نوحْ.
ها همُ الجُبناءُ يفرّون نحو السَّفينهْ.
بينما كُنتُ..
كانَ شبابُ المدينةْ
يلجمونَ جوادَ المياه الجَمُوحْ
ينقلونَ المِياهَ على الكَتفين.
ويستبقونَ الزمنْ
يبتنونَ سُدود الحجارةِ
عَلَّهم يُنقذونَ مِهادَ الصِّبا والحضاره
علَّهم يُنقذونَ.. الوطنْ!
.. صاحَ بي سيدُ الفُلكِ - قبل حُلولِ
السَّكينهْ:
"انجِ من بلدٍ.. لمْ تعدْ فيهِ روحْ!"
قلتُ:
طوبى لمن طعِموا خُبزه..
في الزمانِ الحسنْ
وأداروا له الظَّهرَ
يوم المِحَن!
ولنا المجدُ - نحنُ الذينَ وقَفْنا
(وقد طَمسَ اللهُ أسماءنا!)
نتحدى الدَّمارَ..
ونأوي الى جبلٍِ لا يموت
(يسمونَه الشَّعب!)
نأبي الفرارَ..
ونأبي النُزوحْ!
كان قلبي الذي نَسجتْه الجروحْ
كان قَلبي الذي لَعنتْه الشُروحْ
يرقدُ - الآن - فوقَ بقايا المدينه
وردةً من عَطنْ
هادئاً..
بعد أن قالَ "لا" للسفينهْ
.. وأحب الوطن!

Anfas Elfajer
17/06/2012, 10:32 PM
دراسة عن قصيدة / مقابلة خاصة مع ابن نوح
_____________________________

1-افتتاحية القصيدة تنبئ عن وقوع حدث ماض.. يجري استحضاره بجملة فعلية، تحمل دلالات الفعل الماضي وحضوره بذهن ومخيلة الشاعر في آن معاً:‏

"جاء طوفان نوح".‏

وحين يستخدم الشاعر أو الكاتب جملة فعلية، يعني أن هناك حدثاً ما قد وقع، أو يقع، تتناولـه حركة الفعل على لسان الراوي أو الشاهد، والجملة بتكوينها هذا تشير إلى أن طوفان نوح حدثٌ قد وقع فعلاً في الزمن الماضي.. البعيد، لكن حركة الفعل داخل النّص الشعري /الحكاية/ وما يوحيه لنا العنوان، تشي أن المقابلة مع ابن نوح جرت في الزمن الراهن، وليس لنوح أية علاقة بالمقابلة وبالتالي فالحكاية القصيدة، ليست رصداً للحادثة التاريخية. فالمقطع الثاني من القصيدة يخلو تماماً من الفعل الماضي، بينما يعتمد على الأفعال المضارعة المتعددة: //المدينة تغرق.. والعصافير تفرّ.. ويطفو الأوزّ على الماء.. والصبايا يلوّحن فوق السطوح.. إلخ//.‏

هنا تدخل القصيدة /الحكاية/ في لعبة الزمن. فطوفان نوح ضارب في القدم لكنّ طبيعة الأسماء ودلالات الأمكنة، ومفردات الحياة الواردة في محور القصيدة، طبيعة معاصرة وحاضرة في الذهن والواقع: ((مبنى البريد –البنوك- مستشفيات الولادة- بوابة السجن- أروقة الثكنات- إلخ)).‏

ثم نتلمس في المقطع الثالث –رغم استخدامه للفعل المضارع- طبيعة الأسماء الحاضرة في التاريخ القديم. وليس لها علاقة بالراهن كمفردات تحمل دلالات الزمن الذي تنتمي إليه: //الحكماء –قاضي القضاة- حامل السيف- راقصة المعبد-)). ثم في المقطع الرابع يعود الزمن الراهن بمفرداته المعاشة: ((الجبناء –السفينة- شباب المدينة- مهاد الصبا- الوطن.. الخ)).‏

هكذا يتيسّر لنا أن نكتشف تداخل الأزمنة عبر صراع الحركة والتحول، كعنصر هام من عناصر الفن الحكائي- القصصي- لدى أمل دنقل، مستفيداً من أشكال وبنى فنية تعامل معها فن القصة والرواية. مما أثرى فن الحكاية الشعرية لديه. وطوّره بشكل يكاد يكون كثيفاً في مرحلة ما بعد السياب وعبد الصبور وأدونيس ودرويش وسعدي يوسف- فالزمن لديه ليس في تحديد زمن وقوع الفعل فحسب، وإنّما أيضاً مدى الحركة والحيوية.. حيوية العلاقة بالراهن التي يمنحها للنص الشعري، لتكتسب في النهاية رموزها ودلالاتها الفكرية والفنية.‏

2-يشير عنوان القصيدة إلى /الحكاية/ الأسطورة التي وردت في "التوراة" و"القرآن"، وفي أساطير شعوب أخرى كثيرة مثل الهند وبلاد ما بين النهرين /أسطورة جلجامش/.‏

وقد ركّزت تلك الأساطير –كما في طوفان نوح- على الدلالة الأخيرة التي توجّت الطوفان الذي يرمز بشكل واضح- في الأسطورة- إلى بدايةٍ جديدة للحياة على الأرض. أو بداية تكوين العالم من السديم. وبالتالي هو رمز الولادة الجديدة للحياة، هو إنقاذ حفنة نيّرة من البشرية، من شرور حفنة من "الكافرين".‏

غير أننا سنكتشف /في القصيدة/ أن أمل دنقل قد نسف المعادل الرمزي للأسطورة، وحوّلها إلى دلالة أخرى تماماً، هي دلالة الهدم والخراب والفزع، حتى العصافير ولّت هاربة، من رهبة هذا الطوفان المدمّر.. الذي أغرق كل شيء على وجه الأرض: ((البيوت- الحوانيت- مبنى البريد- البنوك- التماثيل لأجدادنا الخالدين –المعابد- أجولة القمح- مستشفيات الولادة.. دار الولاية.. الخ)).‏

ثم تشي لنا القصيدة أن جزءاً كبيراً منها يرصد حركة الطوفان وحركة البشر معتمداً على النص القرآني* الذي يبدأ مباشرة بوصف السفينة الناجية، وذكر ابن نوح- الذي لم يذكره النص التوراتي** الحافل بالتفاصيل في وصف حركة الطوفان:‏

كيف محى الله- بالطوفان- كل قائم على الأرض/-:‏

//فتغطّت الجبال. فمات كل ذي جسد كان يدبّ على الأرض. من الطيور والبهائم والوحوش وكل الزحافات والتي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس)).‏

ولم يبق سوى نوح والذين صعدوا إلى السفينة من "الطاهرين". غير أن الشاعر يرى –عبر المفارقة في الرمز والدلالة- أن الناجين من الموت في الطوفان هم: الجبناء –الحكماء –المغنون- سائس الخيل- المرابون- قاضي القضاة /ومملوكه/ -حامل السيف- راقصة المعبد- جباة الضرائب- مستوردو الأسلحة- عشيق الأميرة في سمته الأنثوي.. الخ)).‏

كل هذه الرموز، بما تحمله من دلالات اجتماعية وفكرية وسياسية، تنفي فكرة إنقاذ البشر الطيبين من الشرور، وتعترف بشكل خفي بوحدة التناقض وصراع الأضداد في الطبيعة والبشر، عبر مفارقة فكرية فلسفية بين الشاعر والأسطورة، مستخدماً إياها للتدليل على حركة الخراب الراهنة.‏

هكذا تبنى القصيدة /الحكاية/ عبر حركة التحام وتداخل مع الواقع المعاصر، نكتشفها شيئاً فشيئاً في حركة طوفان من نوح آخر، حركة تغرق الأشياء المادّية المكوّنة للحياة- للحضارة بصفة عامة. فالطوفان هنا يمثل الغزو بمعناه الشمولي، كمقدمة للخراب الاجتماعي والثقافي والسياسي؛ على نقيض المعنى الدلالي للأسطورة /الطوفان" الذي يمثل إنقاذ البشرية من المهانة والفساد والشرور.‏

لذلك جاءت بعض أجزاء القصيدة –التي تحفل بدرجة عالية من الرصد الخارجي- الموضوعي- لتعزّز بناء الحكاية في رصد حركة الحدث وانعكاسه الداخلي /الذاتي/ على موقف ومعاناة الشاعر في الزمن الراهن. فالتحمت حركة الصراع الخارجي- أي طغيان الطوفان- وحركة المجتمع- برؤية الشاعر الطبقية إزاء هذا الطوفان- مع الموقف الفكري للشاعر، الذي تماثل مع موقف "ابن نوح" برفض النزوح، والتمرّد، وهذا هو أساس وجذر القصيدة الحكاية وغايتها، وهذا ما يفسر أيضاً استخدام ضمير المتكلم، عبر حالة الصراع /الفعل/ متخذاً "ابن نوح" قناعاً له. تحقّقت فيه خصائص القناع التراثي، /كما سنرى لدى أدونيس، والبياتي في مكان آخر من هذا البحث- كتقنية فنيّة يتوحّد بها الشاعر تماماً للتعبير عن موقف تمرّدي أيديولوجي.‏

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الشاعر كثيراً ما يتخذ من التراث قناعاً، ويتبناه في كثير من قصائده، مع ملاحظة أن الشخصيات التي يختارها "قناعاً" هي في الغالب شخصيات قلقة، متمرّدة، وعناصر مناوئة وانقلابية، وليست سلطوية؛ عناصر تمثل فكرة الرفض في التراث العربي "زرقاء اليمامة –عنترة العبسي- المتنبي- أبو موسى الأشعري- أبو نواس.. الخ- وسبارتاكوس من التراث العالمي.‏

ومن الملاحظ أيضاً أن كل من هذه الشخصيات التراثية، صاحب قضية، يناضل من أجلها بطريقة أو بأخرى- بعضها قدم حياته من أجل قضيته- وهي في الغالب شخصيات معادية للسلطة، غير أنها جميعاً- وهذه ملاحظة هامة- شخصيات فردية وليست جماعية، لذلك لم تصل إلى حالة ثورية- باستثناء سبارتاكوس- أو إلى حالة تناقض فكري مع السلطة والتقاليد، رغم أن تمرّدها اكتسب في عصرنا الراهن قيماً عظيمة، ولا شك أن اختيار الشاعر لهذه الشخصيات ينسجم مع منطق التمرّد المطلق الذي تبنّاه أمل دنقل طيلة حياته*.‏

3-إن الحنين إلى الماضي عند أمل دنقل يمكن أن يفسّر لنا هاجس البحث عن المثل الأعلى، الكامن في ذهنه، والغائب عن الحياة المعاصرة، إنه يحنّ دائماً إلى المجتمع البدائي في كثير من قصائده –زرقاء اليمامة- حرب البسوس- لا تصالح- الخيول- في انتظار السيف- حكايا المدينة القصيّة-.. الخ.‏

وهذا يقودنا إلى ميّزة أخرى لدى أمل دنقل –ليس متفرداً بها- هي (التناص): أي اعتماد نصّ على نصّ آخر أو أكثر-، ولعله ميزة أساسية في شعر "دنقل" وبالتالي هو أحد أهم خصائص الشعر العربي المعاصر، حيث برز عند كبار الشعراء الذين يحملون همّ وقلق البحث عن شكل وأسلوب ومضامين جديدة للقصيدة العربية، ويتخذون من التناص، أو القناع، -وهو أحد أشكال التناص-، منطلقاً للتعبير عمّا لا يستطيعون الإفصاح عنه أو الإجهار به.‏

وبهذا المعنى فإن التناص هو أبرز عناصر قصيدة أمل دنقل، حيث اعتمد على نصّ أسطوري ورد في "التوراة"** والقرآن*** لكن موقف الشاعر –كما ذكرت –مختلف تماماً- وهذه ميزة أخرى داخل التناص نفسه، فهو على نقيض فكري، يعتبر الطوفان كما مرّ معنا بمثابة اجتياح استعماري لغزوٍ يحمل كل معاني الموت والخراب؛ وهذا الطوفان المدمّر لم يكن يحمل يوماً معنى الإنقاذ سوى بالأسطورة التوراتية، فالتجربة البشرية عبر التاريخ لا تزال تعاني من الشرور والفساد والقهر والقمع والجوع مما لم تستطع أن تعبر عنه كفاية المخيلة البشرية في عصرنا الراهن*.‏

لذلك اختار الشاعر "ابن نوح" الذي لم يصعد إلى "الفلك"؛ والذي لم يكن له وجود في النصّ التوراتي، كمعنى للرفض والتمرّد.‏

4-تأسيساً على ما سبق نستطيع أن نرصد حركية القصيدة /الحدث/ فهي تبدأ بصراع متواصل تطغى فيه حركية الخارج الوصفي، على حركية الداخلي، النفسي ثم يتوازنان في المقاطع الوسط. عبر رؤية فكرية تعلن عن موقفها الانقلابي الرافض لمفهوم الطوفان.‏

غير أن امتداد القصيدة وحتى النهاية، يعبر عن حالة الرفض السّلبي الذي لا يستطيع الانتقال إلى المعنى الإيجابي لهذا الرفض: /كان قلبي الذي نسجته الجروح -.. يرقد الآن فوق المدينة وردةً من عطن- أو زهرة من عطن- بعد أن قال "لا" للسفينة، وأحبّ الوطن /..، هذا الرافض الأعزل، يشير بعد بدء الطوفان وانحسار الحالة التمرديّة، إلى عودة الفرد، الطاغية،:‏

//صالح بي سيّد الفلك" قبل حلول السكينة –انج من بلدٍ… لم تعد فيه روح//.‏

هكذا نجد في جسد القصيدة معالم الهزيمة والصمود معاً، فقد قال الشاعر /بن نوح/: لا للسفينة.. وأحبّ الوطن /فهو بذلك ينسف فكرة اللا جدوى من موقف الرفض –كما يحلو لبعض الدارسين أن يفسّروا ذلك، لتجنيب الشاعر تلك المفارقة الفكرية مع النصّ القرآني فيما يتعلق بالأسطورة وما ترمز إليه في إنقاذ البشرية من الشرور؛ فلولا تلك المفارقة لما لجأ الشاعر إلى استخدام الأسطورة للتعبير عن الخراب الذي أحدثه الطوفان الجديد، في الواقع الراهن. الذي يدعو الشاعر إلى رفضه والتمرّد عليه ثم تغييره:‏

//لنا المجد –نحن الذين وقفنا –وقد طمس الله أسماءنا-.. نتحدّى الدمار- ونأوي إلى جبل لا يموت- يسمونه الشعب- نأبى الفرار ونأبى النزوح-))، ثم يأتي مقطع فارغ، فاصل زمني تغيب فيه الكائنات والأسماء ومعالم الحياة؛ دلالة على حدوث الطوفان العنيف، الذي ألغى لوهلةٍ من الزمن الفكر وأعجز اللسان عن الكلام، ثم يصحو الشاعر من الصدمة في المقطع الأخير "كان قلبي".." لتنتهي القصيدة /الحكاية/ بانتصار الحركة الداخلية التي تتوضح بامتياز في المحور الأخيرة القصيدة/ عبر سيطرة الذات على المحور الدرامي فيها. إذ يخلص الشاعر إلى تجربته الصادقة التي تتمثل في معاناته الخفيّة. ثم اختياره للموقف الرافض، الذي يصرّ عليه دائماً في معظم قصائده. معتمداً على فكرة التناص أو القناع.‏

فالطوفان في القصيدة دلالة واضحة ترمز إلى بدء زمن الانفتاح الاقتصادي- في زمن القصيدة- وما كان يعنيه من خراب ودمار للوطن بالنسبة لشاعر مثل أمل دنقل، يسكنه الحزن والصخب معاً، والحلم والعدمية معاً، والرفض والتمرد رغم إيمانه بحتمية موته الذي قد يباغته بين لحظة وأخرى.‏

أخيراً لابد من التنويه إلى أن أمل دنقل –كغيره من الشعراء المجددين كسر ألفة القيود التي تؤطر مفهوم الحكاية الكلاسيكي في الشعر – حيث لا يمكن الثبات في مكان، أو تجاهل هذا السيل من التجدد والتجريب المستمر في الحركة الشعرية العربية، فجاءت حكايته مع /ابن نوح/ حاملة لعناصرها الجديدة. كما حدث للقصة والرواية والفنون الأخرى… وما زال يحدث.‏



المصدر (http://go.3roos.com/7qssri597yr)

Anfas Elfajer
18/06/2012, 04:22 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/01339982515.jpg

قصيدة : خطاب غير تاريخي

___________________



ها أنتَ تَسْترخي أخيراً..
فوداعاً..
يا صَلاحَ الدينْ.
يا أيُها الطَبلُ البِدائيُّ الذي تراقصَ الموتى
على إيقاعِه المجنونِ.
يا قاربَ الفَلِّينِ
للعربِ الغرقى الذين شَتَّتتْهُمْ سُفنُ القراصِنه
وأدركتهم لعنةُ الفراعِنه.
وسنةً.. بعدَ سنه..
صارت لهم "حِطينْ"..
تميمةَ الطِّفِل, وأكسيرَ الغدِ العِنّينْ
(جبل التوباد حياك الحيا)
(وسقى الله ثرانا الأجنبي!)
مرَّتْ خيولُ التُركْ
مَرت خُيولُ الشِّركْ
مرت خُيول الملكِ - النَّسر,
مرتْ خيول التترِ الباقينْ
ونحن - جيلاً بعد جيل - في ميادينِ المراهنه
نموتُ تحتَ الأحصِنه!
وأنتَ في المِذياعِ, في جرائدِ التَّهوينْ
تستوقفُ الفارين
تخطبُ فيهم صائِحاً: "حِطّينْ"..
وترتدي العِقالَ تارةً,
وترتدي مَلابس الفدائييّنْ
وتشربُ الشَّايَ مع الجنود
في المُعسكراتِ الخشِنه
وترفعُ الرايةَ,
حتى تستردَ المدنَ المرتهنَة
وتطلقُ النارَ على جوادِكَ المِسكينْ
حتى سقطتَ - أيها الزَّعيم
واغتالتْك أيدي الكَهَنه!
***
(وطني لو شُغِلتُ بالخلدِ عَنه..)
(نازعتني - لمجلسِ الأمنِ - نَفسي!)
***
نم يا صلاحَ الدين
نم.. تَتَدلى فوقَ قَبرِك الورودُ..
كالمظلِّيين!
ونحنُ ساهرونَ في نافذةِ الحَنينْ
نُقشّر التُفاحَ بالسِّكينْ
ونسألُ اللهَ "القُروضَ الحسَنه"!
فاتحةً:
آمينْ.

Anfas Elfajer
18/06/2012, 04:27 AM
دراسة عن قصيدة / خطاب غير تاريخي

_______________________


العنوان هنا وحده، يحمل قدرا كبيرا من الاكتناز الدلالي، ولعل القارئ يلاحظ، أن العنوان يرتبط أشد الارتباط بالنص الذي يعنونه، فهو إن شئت نص مختصر، يتعامل مع نص مفصل، فالعنوان دوما عبارة عن نص مختصر، يتعامل مع نص أكبر حجما، يعكس كل أغواره وأبعاده، ومن هنا لا نجد بدا من الاشارة إلى ' أن أغلب الذين يتعاطون الكتابة، إنما يجدون كل الصعوبة في اختيار عنوان أعمالهم' (2)، وبهذا فالعنوان عبارة عن رسالة يبثها المرسل إلى المرسل إليه، وهي مزودة بشفرة لغوية يحللها المستقبل ويؤولها، بلغته الواصفة، وترسل عبر قناة، وظيفتها الحفاظ على الاتصال، ولفهم هذه الوظائف، يستحسن الاعتماد، على الوظائف الست، التي تكلم عنها ' رومان جاكبسون' وهي: ' الوظيفة المرجعية والانفعالية والافهامية، والشعرية أو الجمالية والتنبيهية، والانعكاسية'(3)

نبرزها في المخطط التالي :

العنوان: خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين.

الخطاب: يمثل الحركة والحاضر.

التاريخ: يمثل الماضي والاستنجاد به أو اقتباسه وتقمصه و(غير) رد فعل رافض لهذا التاريخ لدى الشاعر.

صلاح الدين والقبر: يمثل رفضا مطلقا في خيال الشاعر للبطل الفرد فأمل يرى أن التكامل لاثبات الوجود ليس شخصا ولا مؤسسة مهما كانت وإنما هو التواجد الجماعي لتحقيق الغاية.

إن الأحداث السياسية والأوضاع الاجتماعية، كانت مصدرا هاما، من مصادر، التجربة الشعرية لدى أمل فقد برز في ظروف منكسرة من تاريخ مصر الحديث، تشابكت فيها الأحداث السياسية، وتفاعلت مع نفسه، مكونة كتلة من الأحاسيس، القاتمة، الممزوجة بألوان الحزن والألم واليأس والخوف على المصير المشترك، الذي آلت إليه البلاد العربية، بما منيت به من انكسارات وشروخات، أضاعت هيبتها ومست سيادتها، فاتخذ له في ذلك، طريقا سياسيا في شعره، مستمدا مواضيعه من أوضاع شعبه الممزق، بين ظلمة الاستعمار في الماضي، وسلطة الحكام المستبدين في الحاضر:

هَا أنْتَ تَسْتَرْخِي أخِيرًا..

يتخذ السطر الاول، كطبيعة بسيطة في تحصيل الحاصل، ونزع إفرازات الهلوسة، في تشيؤ الفكرة، يعني أن الاسترخاء، أمر معلوم جدا، ومنطقي لا يستهدف الحاضر بالسلبية أو الإيجابية، فالمرحلة التي تمثل المجد والتوحد الشعبي، التي رمز إليها في شخص ' صلاح الدين'، يعتبرها اللاجدوى في تحريك الواقع، الفكري، فالطبْل البدائي لا يضيف تجديدا ولا فائدة من توظيفه، إنما للنشء مفاهيم تتعدى عصر الواقع في إطار الماضي وتشجيع الواقع على تقمص الماضي، فالرغبة الحقيقية للتغيير والمقاومة، تكون من الحاضر نفسه، باعتبار أن الحاضر يفرض حضورا على الساحة الدولية، لا تغييبا عنها وذلك يتحقق حسب مصطلحات العصر ومغيرات الفكر، وتجديد المجتمع، وتسليح الفرد واستقطاب المعيار الواقعي، لخلق تحدّ ٍ يوازي الضعف، كانت السفينة فلينية ( يَاقَارِبَ الفِلِّينْ)، وكان الشعب عربا أي ضعفا، ولاوجودية في الحسابات الدولية، لأن الحسابات العالمية، لا تنطلق من الأرقام، البشرية وإنما من التكتلات التكنولوجية والاقتصادية، ولمزيد من الايضاح نستعين بالمخطط التحليلي الآتي:

خطاب تاريخي على قبر صلاح الدين

ها أنت تسترخي أخيرا.. - يا أيها الطبل -

يا قارب الفلين للعرب الغرقى

فالطبل لايضيف شيئا ولا جديدا ولا تجديدا فالنشء له مفاهيم تتعدى حصر الواقع في إطار الماضي وهذا ما يؤكده العنوان في نفي التاريخية.. للحاضر.. ! وحالة الاسترخاء في نظر الشاعر.. أمر معلوم.. وطبيعي جدا!! الشاعر أيضا يشير إلى فلينية السفينة وهنا تتدفق رؤاه الجمالية في تناص ذاتي مع قصيدة ' مقابلة خاصة مع ابن نوح'، فهاهم الحكماء الجبناء يفرون نحو السفينة.. سفينة فلينية، هشة، تدفعها الرياح أنى شاءت!! وها هم العرب الغرقى، الذين يمثلون الضعف، والترهل: ( المغنون ـ سائس خيل الأمير ـ المرابون ـ قاضي القضاة ـ راقصة المعبد ـ جباة الضرائب ـ مستوردو شحنات السلاح ـ عشيق الأميرةô) !!

يقول الشاعر: ' يجب التنبه إلى أن العودة للتراث لا يجوز أن تعني السكن فيه، بل اختراق الماضي كي نصل إلى الحاضر استشرافا للمستقبل' (**) ولذلك وظف هذه الإيحاءات:

وَلَنَا المَجْدُ ـ نَحْنُ الذِينَ وَقَفْنَا

( وَقَدْ طَمَسَ اللهُ أَسْمَاءَنَا)

' مقابلة خاصة مع ابن نوح'.

وَنَحْنُ ـ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ - فِي مَيَادِينَ المُرَاهَنَة

نَمُوتُ تَحْتَ الأَحْصِنَةِ !

' خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين'.

بطبيعة الحال، تغيرت من حول النفس الباطنية عند الشاعر أمل دنقل كل رموز الخلق الإبداعي، في تطوير المجتمعات من زاوية إلى زاوية أخرى، وهذا ما يجعل صورة ( الفلين)، أكثر دلالة على عمق الضعف والترهل للذي يحاول أن يتزعم الفكرة، مهما كانت.. أن يجعل منها قارب ( نجاة!) ـ كما يفعل الحكماء، الجبناء عندما فروا إلى السفينة طالبين النجاة في قصيدة ' مقابلة خاصة مع ابن نوح' للشاعر نفسه - حيث يصيح سيد الفلك:

( انْجُ مِنْ بَلَدٍ.. لَمْ تَعُدْ فِيهِ رُوحْ!). كان طبيعيا جدا، أن تكون كصيغة مادية، تجسد قيمة الانحطاط الاجتماعي الذي يعاني منه الفراغ القومي الذي كان فكرة تعدت حدود الوطن الواحد وعقلية الشاعر الواحد، إلا أن الاستمرار في التمسك بهذه القوة الضعيفة، يعني عودة إلى ما سلف من معاني الاندثار الروحي، فالقومية أساءت إلى عقلية كانت أكثر علمية، ورقعة كانت أكثر اتساعا، فعامل التقزيم، داخل رفض القصيدة، كان شديد اللهجة :

وأَدْرَكَتْهُم لَعْنَةُ الفَرَاعِنَة ْ

وَسَنَةً .. بَعْدَ سَنَة ْ..

صَارَتْ لَهُمْ ' حِطِينْ' ..

تَمِيمَةَ الطِفْلِ، وَاكْسِير الغَدِ العِنّينْ .

والفرعونية كرمز من رموز القصيدة، يدل على الانغلاق على ما يعتبرونه ساميا، وأحد أسباب الأفول في الحضارة الفرعونية نفسها، أي أن رمز ( حطين) يريد به الشاعر أن يفجر الشعور عند الشعوب التي فقدت علاقة القرابة بين بعضها البعض، في اللسان إلى البصيرة والعقيدة والهدف. حاول الشاعر تضخيم الحدود الزجاجية، التي لا تصلح إلا للمتاحف، أي لكل ما أنهكه الأفول وقضى عليه، أي أن إحياء الموت، لا يعني العودة إلى الحياة.

ويستمر الانكسار، وتستمر الرغبة الشديدة في المطالبة بالحل، كان الحل عملية همسية، ليست بالوضوح الذي يكون في لغة الأرقام، بل في لغة تكون جامعة بين الشعب والسلطة، هكذا اكسير الغد العنين، رمز يعني فوضى تحديد الموقف بشكل علاجي بحت وإنما هو محاولة للاعتراف بالداء، والفرق شاسع. يبقى عامل التاريخ أحد المصطلحات التي رافقت تطور القصيدة في باطن المعنى، هو عند الشاعر قوي جدا :

( جَبَل التَوبادِ حَيَّاكَ الحَيَا)

( وَسَقَى اللَّهُ ثَرَانَا الأَجْنَبِي!)

مَرَّتْ خُيُولُ التركْ

مَرَّتْ خُيُولُ الشرْكْ

مَرَّتْ خُيُولُ المَلِكِ ـ النِسْر،

مَرَّتْ خُيُولُ التَتْر البَاقِينْ

وَنَحْنُ ـ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ - فِي مَيَادِينِ المُرَاهَنَة ْ

نَمُوتُ تَحْتَ الأحْصِنَة ْ! (4)

إن الجمع بين ( التتار، الشرك، الملك النسر)، وبقاء التتار مربوط بفعل ( مَرَّ)، ويعني هنا ( أحدث وأثَّر)، والشاعر يعرف وجوههم واحدا، واحدا : الحكماء، الجبناء، الذين مروا أيضا على ' نوح' ـ عليه السلام - ورأوه منهمكا في صنع السفينة.. والجفاف سائد.. وليست هناك أنهار قريبة، أو بحار.. كيف ستجري هذه السفينة إذن يا نوح؟ .. هل ستجري على الأرض.. أين الماء، الذي يمكن أن تسبح فيه سفينتك؟ ' وترتفع ضحكات الكافرين، وتزداد سخريتهم من نوح.. إن قمة الصراع في قصة نوح تتجلى في هذه المساحة الزمنية.. إن الباطل يسخر من الحق.. يضحك عليه طويلا، ويسخر منه طويلا' (5).

قال تعالى، في سورة هود: ) وَيصْنَعُ الفُلْكَ وَكُلَمَا مَرَّ عَلَيهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ، سَخِرُوا مِنْهُ، قَالَ إنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُون َ (6) ، كذلك الترك والمشركون والملك النسر.. كلهم رموز مختلفة لقوى استلابية واحدة!.

والملك النسر، ليس هو سبيل النجاة، في نظر الشاعر، لأن القوة الحضارية الآن، ترتبط بشخص مهما كان، ولكنها ترتبـــط ارتباطــا، عضويــا وكليــا بالشعـــب نفســـه، وهذا يجعلنا نتساءل عن الكيفية التي نجعل بها من الكتل البشرية ( الشعب)، الراكدة المتجمعة حول غايات بسيطة، سطحية، قوى ديناميكية، تصنع التاريخ وتغير مجراه، نحو هذا الهدف أو ذاك؟ ، ويقوم المفكر الكبير ' مالك بن نبي' ( ***) ، بعملية تحليل جد مركزة ( الاستعصار)، ليخلص في النهاية، إلى أن أي مجتمع في نقطة إقلاعه، ليس أمامه من رأس مال ' سوى ثلاثة عوامل مادية: ( الانسان ـ التراب ـ الوقت) '(****) .

ومن ثمة استطاع صياغة معادلته الحضارية المشهورة: ( حضارة = إنسان + تراب + وقت ).

وينقلنا المفكر الكبير، إلى حقل آخر من حقول المعرفة البشرية، التفاعلات الكيميائية، ليقيم مقارنة بين معادلته الحضارية والمعادلة الكيميائية: ( ماء = أكسجين + هيدروجين ) .

حيث لا يتشكل الماء إلا بوجود ( مركب) ، أي شرارة كهربائية، ومن ثمة يؤكد أنه لنا الحق في أن نقول: ' أن هناك ما يطلق عليه ( مركب الحضارة)، أي العامل الذي يؤثر في مزج العناصر الثلاثة بعضها ببعض، فكما يدل عليه التحليل التاريخي.. نجد أن هذا المركب موجود فعلا، هو الفكرة الدينية، التي رافقت دائما، تركيب الحضارة خلال التاريخ' (7) ، فالقاعدة والبنية الحقيقية للمجتمعات، ليست شريحة من المجتمع نفسه، مهما بلغت مكانة هذه الأخيرة، وإنما الرأي السديد، وتحديد المصير الروحي يكون في يد الشعوب كما عرفنا ذلك، أي الطاقة الحقيقية، ليست وطنا يمثله شخص بعينه مهما علا شأنه وعظم سلطانه، وإنما الثروة الحقيقية، هي الطاقة البشرية، الانسانية، الروحية، التي يعتمد عليها الشخص الواحد في تغيير أدوار الحركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتكنولوجية والعسكرية، بذلك يثبت لنا أن التتار، ليس رمزا للموت والخراب والدمار، كما أن الملك النسر ليس رمزا للحياة :

وَأنْتَ فِي المِذْيَاعِ، فِي جَرَائِدِ التَهْويِنْ

تَسْتَوْقِفُ الفَارِينَ

تَخُطُبُ فِيهِم صَائِحًا: 'حِطِّينْ '..

وَتَرْتَدِي العقَالَ تَارَةً،

وَتَرْتَدِي مَلابِسَ الفِدَائِيِينْ

وَتَشْرَبُ الشَايَ مَعَ الجُنُودْ

فِي المُعَسْكَرَاتِ الخَشِنَةِ

وَتَرْفَعُ الرَايَةْ،

حَتَى تَسْتَرِدَّ المُدُنَ المُرْتَهنَة ْ

وَتطْلِقُ النَارَ عَلَى جَوادِكَ المِسْكِينً

حَتَى سَقَطْتَ ـ أيُهَا الزَعِيمْ

وَاغْتَالَتْكَ أيْدِي الكَهَنَة ْ!

( وَطَنِي لَو شُغِلْتُ بٍالخلْدِ عَنْهْ..)

( نَازَعَتْنِي ـ لِمَجْلِسِ الأَمْنِ - نَفْسِي ! )

نَمْ يَا صَلاَحَ الدِينْ

نَمْ.. تَتَدَلَى فَوقَ قَبْرَكَ الوِرْودُ..

كَالمِظَلَيين !(8)

تتواصل رواسب المعاناة والأفكار، التي تشعر بإرهاق كبير شديد، أكثر ما يرهقها، هو طريقة تفجير المغيرات في عقول المتغيرات، وهو باب مفتوح في أفكار القصيدة، غير مغلق، بإمكان أي شاعر أن يواصل من خلاله كتابة شعرية تنصب في إطار القصيدة العام لأنها فكرة جوهرية وأفكار جزئية، وأحاسيس مشتركة بين عامة أبناء هذا الوطن الكبير، يواصل الشاعر سرد المعاناة التاريخية، في تحديد الشخص الواحد، حيث يعطيه أدوارا كثيرة في ارتداء العقال وملابس الفدائيين وأشياء كثيرة يحاول من خلالها إبراز الخلل التاريخي والتحذير الكلي من الوقوع فيه، إلى غاية المقطع الأخير :

وَنَحْنُ سَاهِرُونَ فٍي نَافِذَةِ الحَنِينْ

نُقَشِرُ التُفَاحَ بِالسِكِينْ

وَنَسْأَلُ اللَّهَ ' القُرُوضَ الحَسَنَة ْ'!

فَاتِحَة:

آمِينْ. (9)

وهنا تعبير قائم في شبه اللامعاناة، التي كانت محور القصيدة، وبهذا كان النص يعبر عن تحليل فكري يخص الشاعر ويخص المرحلة التاريخية التي سبقت كتابة القصيدة، ولكنه تحليل يمتاز بمنطقية شديدة وحسية بالغة الأهمية، مَثَّلَ الشاعر في قصيدته، دور المدافع عن الملك أو الحاكم، لتجسيد قيمة حقيقية للخلفية الشعبية، المغيبة تماما.

وإذا عدنا إلى القصيدة فسنجد أن الشاعر ما زال يغترف ويستوحي نصوصه عن طريق ( التناص) في علائق مع خطابات أخرى، في مثاقفة حصيفة مع أبيات الشاعر ' أحمد شوقي'، تضفي على شعر ( أمل)، عدا جمالياته عتاقة وجلالا، وصيغة حضارية، متواصلة، ويظهر نسيج التناص في البيتين التاليين:

(جَبَل التَوبادِ حَيَّاكَ الحَيَا)

( وَسَقَى اللَّهُ ثَرَانَا الأَجْنَبِي!)

( وَطَنِي لَو شُغِلْتُ بٍالخُلْدِ عَنْهْ..)

( نَازَعَتْنِي ـ لِمَجْلِسِ الأَمْن ِ- نَفْسِي!).

فالبيت الأول يتناص مع بيت من مسرحية ( مجنون ليلى) لأحمد شوقي :

جَبَل التَوبادِ حَيَّاكَ الحَيَا وَسَقَى اللَّهُ صِبَانَا وَرَعَى (10)

ويستخدم الشاعر المفارقة الصارخة الساخرة حيث الشاعر ' يدمر التوقع الذي يثيره البيت المضمن عن طريق بناء صيغة ساخرة مناقضة لمستوى مشابهة الحقيقة ، في البيت المضمن، وتشكل الصيغة الساخرة، في العبارة ( ثرانا الأجنبي ) تحولا تاما في المضمون والقافية'(11) ،أما البيت الثاني، فيتناص مع بيت من قصيدة للشاعر أحمد شوقي وهي معارضة لسينية البحتري:

وَطَنِي لَو شُغِلْتُ بٍالخُلْدِ عَنْهُ نَازَعَتْنِي إلَيْهِ فِي الخُلْدِ نَفْسِي (12)

حيث ' تكسر صيغة - مجلس الأمن - السياق المضموني في السطر الشعري مع الاحتفاظ بالقافية'(13)، فهذه التناقضات والمفارقات بين مستويات الخطاب ' تعادل الواقع المعيش، وتشكل في الوقت نفسه انقطاعا تاريخيا،.. يماثل الانقطاع في الذاكرة الشعرية ومن ثم انقطاع الاستمرارية التاريخية والثقافية على السواء' (14) ، وحيث الخطاب يبقى غير تاريخي! في هذا الزمن اللاتاريخي!.


المصدر : مجلة الابتسامة (http://go.3roos.com/htqunaragqp)

Anfas Elfajer
09/07/2012, 11:09 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/11341821300.jpg

شجوية
_____


لماذا يُتابِعُني أينما سِرتُ صوتُ الكَمانْ?
أسافرُ في القَاطراتِ العتيقه,
(كي أتحدَّث للغُرباء المُسِنِّينَ)
أرفعُ صوتي ليطغي على ضجَّةِ العَجلاتِ
وأغفو على نَبَضاتِ القِطارِ الحديديَّةِ القلبِ
(تهدُرُ مثل الطَّواحين)
لكنَّها بغتةً..
تَتباعدُ شيئاً فشيئا..
ويصحو نِداءُ الكَمان!
***
أسيرُ مع الناسِ, في المَهرجانات:
أُُصغى لبوقِ الجُنودِ النُّحاسيّ..
يملأُُ حَلقي غُبارُ النَّشيدِ الحماسيّ..
لكنّني فَجأةً.. لا أرى!
تَتَلاشى الصُفوفُ أمامي!
وينسرِبُ الصَّوتُ مُبْتعِدا..
ورويداً..
رويداً يعودُ الى القلبِ صوتُ الكَمانْ!
***
لماذا إذا ما تهيَّأت للنوم.. يأتي الكَمان?..
فأصغي له.. آتياً من مَكانٍ بعيد..
فتصمتُ: هَمْهمةُ الريحُ خلفَ الشَّبابيكِ,
نبضُ الوِسادةِ في أُذنُي,
تَتراجعُ دقاتُ قَلْبي,..
وأرحلُ.. في مُدنٍ لم أزُرها!
شوارعُها: فِضّةٌ!
وبناياتُها: من خُيوطِ الأَشعَّةِ..
ألْقى التي واعَدَتْني على ضَفَّةِ النهرِ.. واقفةً!
وعلى كَتفيها يحطُّ اليمامُ الغريبُ
ومن راحتيها يغطُّ الحنانْ!
أُحبُّكِ,
صارَ الكمانُ.. كعوبَ بنادقْ!
وصارَ يمامُ الحدائقْ.
قنابلَ تَسقطُ في كلِّ آنْ
وغَابَ الكَمانْ!

Anfas Elfajer
09/07/2012, 11:11 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/01341821300.gif

من أوراق أبو نوّاس
____________


من أوراق أبونواس
(الورقة الأولى)
"ملِكٌ أم كتابهْ?"
صاحَ بي صاحبي; وهو يُلْقى بدرهمهِ في الهَواءْ
ثم يَلْقُفُهُ..
(خَارَجيْن من الدرسِ كُنّا.. وحبْرُ الطفْولةِ فوقَ الرداءْ
والعصافيرُ تمرقُ عبرَ البيوت,
وتهبطُ فوق النخيلِ البعيدْ!)
"ملِك أم كتابه?"
صاح بي.. فانتبهتُ, ورفَّتْ ذُبابه
حولَ عينيْنِ لامِعتيْنِ..!
فقلتْ: "الكِتابهْ"
... فَتَحَ اليدَ مبتَسِماً; كانَ وجهُ المليكِ السَّعيدْ
باسماً في مهابه!
...
"ملِكٌ أم كتابة?"
صحتُ فيهِ بدوري..
فرفرفَ في مقلتيهِ الصِّبا والنجابه
وأجابَ: "الملِكْ"
(دون أن يتلعثَمَ.. أو يرتبكْ!)
وفتحتُ يدي..
كانَ نقشُ الكتابه
بارزاً في صَلابه!
دارتِ الأرضُ دورتَها..
حَمَلَتْنا الشَّواديفُ من هدأةِ النهرِ
ألقتْ بنا في جداولِ أرضِ الغرابه
نتفرَّقُ بينَ حقولِ الأسى.. وحقولِ الصبابه.
قطرتيْنِ; التقينا على سُلَّم القَصرِ..
ذاتَ مَساءٍ وحيدْ
كنتُ فيهِ: نديمَ الرشِيد!
بينما صاحبي.. يتولى الحِجابه!!
***
(الورقة الثانية)
من يملكُ العملةَ
يُمسكُ بالوجهيْن!
والفقراءُ: بَيْنَ.. بيْنْ!
***
(الورقة الثالثة)
نائماً كنتُ جانبَه; وسمعتُ الحرسْ
يوقظون أبي!..
- خارجيٌّ?.
- أنا.. ?!
- مارقٌ?
- منْ? أنا!!
صرخَ الطفلُ في صدر أمّي..
(وأمّيَ محلولةُ الشَّعر واقفةٌ.. في ملابِسها المنزليه)
- إخرَسوا
واختبأنا وراءَ الجدارِ,
- إخرَسوا
وتسللَ في الحلقِ خيطٌ من الدمِ.
(كان أبي يُمسكُ الجرحَ,
يمسكُ قامته.. ومَهابَتَه العائليه!)
- يا أبي
- اخرسوا
وتواريتُ في ثوب أمِّيَ,
والطِّفلُ في صدرها ما نَبَسْ
ومَضوا بأبي
تاركين لنا اليُتم.. متَّشِحاً بالخرَس!!
***
(الورقة الرابعة)
أيها الشِعرُ.. يا أيُها الفَرحُ. المُخْتَلَسْ!!
(كلُّ ما كنتُ أكتبُ في هذهِ الصفحةِ الوَرَقيّه
صادرته العَسسْ!!)
***
(الورقة الخامسة)
... وأمّي خادمةٌ فارسيَّه
يَتَنَاقَلُ سادتُها قهوةَ الجِنسِ وهي تدير الحَطبْ
يتبادلُ سادتُها النظراتِ لأردافِها..
عندما تَنْحني لتُضيءَ اللَّهبْ
يتندَّر سادتُها الطيِّبون بلهجتِها الأعجميَّه!
نائماً كنتُ جانبَها, ورأيتُ ملاكَ القُدُسْ
ينحني, ويُرَبِّتَ وجنَتَها
وتراخى الذراعانِ عني قليلاً
قليلا..
وسارتْ بقلبي قُشَعْريرةُ الصمتِ:
- أمِّي;
وعادَ لي الصوتُ!
- أمِّي;
وجاوبني الموتُ!
- أمِّي;
وعانقتُها.. وبكيتْ!
وغامَ بي الدَّمعُ حتى احتَبَسْ!!
***
(الورقة السادسة)
لا تسألْني إن كانَ القُرآنْ
مخلوقاً.. أو أزَليّ.
بل سَلْني إن كان السُّلطانْ
لِصّاً.. أو نصفَ نبيّ!!
***
(الورقة السابعة)
كنتُ في كَرْبلاءْ
قال لي الشيخُ إن الحُسينْ
ماتَ من أجلِ جرعةِ ماءْ!
وتساءلتُ
كيف السيوفُ استباحتْ بني الأكرمينْ
فأجابَ الذي بصَّرتْه السَّماءْ:
إنه الذَّهبُ المتلألىءُ: في كلِّ عينْ.
إن تكُن كلماتُ الحسينْ..
وسُيوفُ الحُسينْ..
وجَلالُ الحُسينْ..
سَقَطَتْ دون أن تُنقذ الحقَّ من ذهبِ الأمراءْ?
أفتقدرُ أن تنقذ الحقَّ ثرثرةُ الشُّعراء?
والفراتُ لسانٌ من الدمِ لا يجدُ الشَّفتينْ?!
...
ماتَ من أجل جرعة ماءْ!
فاسقني يا غُلام.. صباحَ مساء
اسقِني يا غُلام..
علَّني بالمُدام..
أتناسى الدّماءْ!!
...
آه
من يوقف في رأسي الطواحين
ومن ينزع من قلبي السكاكين
ومن يقتل أطفالي المساكين
لئلا يكبروا في الشقق المفروشة الحمراء خدّامين
من يقتل أطفالي المساكين
لكيلا يصبحوا في الغد شحاذين
يستجدون أصحاب الدكاكين وأبواب المرابين
يبيعون لسيارات أصحاب الملايين الرياحين
وفي المترو يبيعون الدبابيس وياسين
وينسلون في الليل
يبيعون الجعارين لأفواج الغزاة السائحين
...
هذه الأرض التي ما وعد الله بها
من خرجوا من صلبها
وانغرسوا في تربها
وانطرحوا في حبها مستشهدين
فادخلوها بسلام آمنين
ادخلوها بسلام آمنين..

Anfas Elfajer
09/07/2012, 11:19 AM
عن قصيدة / من أوراق أبو نواس
______________________


من أوراق أبو نواس .. قصيدة فيها الكثير من الاسقاطات على القضايا السياسية و الاجتماعية و الدينية ..
.
يعرض فيها أمل دنقل قضاياه من شيوعية و رغبة في عالم جديد لا يوجد به فقر أو ترصد لأصحاب الفكر أو قمعهم أو قتلهم .. مرورا بقضايا الجدل الديني السقيم من خلال إستعراض لحظات من حياة أبو نواس و كأنه كتب مذكراته بالنيابة عنه في تجربة شعرية فريدة. و يستخدم سيرة أبي نواس في الاسقاط على الواقع العربي الحالي.
.
أبو نواس هو شاعر عبقري من شعراء العصر العباسي من أصل يمني و ام فارسية, و تسقط القصيدة على فترات من طفولته و حياته (رغم تعرض أبو نواس لحملة من التشويه لتاريخه بسبب موالاته لأهل بيت الرسول الكريم) .. و يشير أمل دنقل ضمنيا لهذا في آخر القصيدة في رثاءة للإمام الحسين.
.
و في ختام القصيدة يلقي أمل دنقل خاتمته الشيوعية الخالدة و يصرخ في وجه الفقر و الظلم الاجتماعي ..

آه من يوقف في رأسي الطواحين .. و من ينزع من قلبي السكاكين ..
.
يتباكى فيها على فقراء وطنه !!
.
كما تعودنا يحتاج شعر أمل دنقل لكثير من الـتأمل لفهمه .. لأن شعره كما قال عنه فاروق شوشة شديد الكثافة .. مثلا بعض الملاحظات على القصيدة:
.
الورقة الأولى
---------------
- لاحظ "ملك أم كتابة"
قد يرمز الملك للموالاة للسلطة .. بينما ترمز الكتابة للكاتب و الشاعر و الأديب الحر الذي يقول الحق مثل أبو نواس. و الطبيعي أن يختار أبو نواس الكتابة
الحجابة : وظيفة في القصر .. يمنع يحجب صاحبها الناس عن السلطان و ينظر مشاكلهم.
نديم الرشيد: النديم هو شخص يتولى الترفيه عن الملك بالقاء الشعر و النكات و المسايرة و كان أبو نواس نديم هارون الرشيد!.

الورقة الثانية:
--------------
و في الآخر من يملك العملة يمسك بالوجهين حيث يجذب له الشعراء و الأدباء غصبا (و هي وسائل الاعلام و الثقافة في هذا العصر)!!

الورقة الثالثة :
---------------
إخرسوا في حوار العسكر مع أبوه .. الخرس هنا يرمز للخرس العام خرس الشعوب أمام القهر و القتل .. فكان يجب على أبو نواس أن يأخذ هذه الكلمة "إخرسوا" التي يكررها أمل دنقل على لسان العسكر و يعيش و يتذكرها طول عمره و يعيش باليتم و الخرس

الورقة الرابعة:
---------------
مصادرة العسس للرأي و الفكر .. و مصادرتهم لفرحته بالتعبير عن رأيه

الورقة الخامسة
-----------------
لا ندري لماذا اختار أن يزور أمه ملاك القدس .. هل يسقط أمل دنقل في وفاة أم أبي نواس بوفاة الأمة العربية و ضياع القدس منها؟

الورقة السادسة
-------------------
كانت تجوب هذا العصر خلافات دينية عقيمة و مريضة حول ما إذا كان القرآن مخلوقا أم أزلي .. و هي تشبه الخلافات الدينية التي يطلع بها الشيوخ هذه الأيام حول أشياء لا تقدم و لا تؤخر و لا تفيد و لا تضر (اللحية مثلا و غيرها) .. و الهدف منها دائما هو إلهاء الناس عن ما يعيشونه من قهر و ظلم و فقر. فكانت قضية الفقهاء في ذلك العصر أيضا "هل القرآن مخلوقا أم أزلي؟"
فيعلنها على لسان أبو نواس الذي نفترض أنه كان له من البصيرة لتبني هذا الرأي
"لا تسألني إن كان القرآن مخلوقا أم أزلي"
أي لا تجهد عقلي و طاقتي بهذه الفتاوى المضللة
"بل سلني إن كان السلطان لصا أم نصف نبي!"
اللص بالطبع هو السلطان بينما تشير نصف نبي كناية عن الامام الحسين أو شخص من أهل بيت الرسول الكريم كما كان يعتقد أبو نواس الذي دأب على مدحهم و هو ما سبب له الكثير من المشاكل

الورقة السابعة
----------------
كربلاء .. إسقاط على مشكلة أبو نواس انه تساءل كيف استباحت السيوف الامام الحسين و أهل بيت الرسول الكريم.. و هو كما يقول البعض المشكلة الأساسية التي سببت له السجن و القتل لأنه لم يلتزم بالأمر الذي أمره به العسكر في طفولته .. عندما كرروا له "إخرسوا"!!
و أخيرا إسقني يا غلام صباح مساء علني بالمدام -الخمر- أتناسى الدماء و هي تهمة أبو نواس الأساسية كما يقول التاريخ الذي ظلم أبو نواس كثيرا

الخاتمة
---------
صراخ في وجه الظلم الاجتماعي و الفقر
لاحظ "أفواج الغزاة السائحين" ليس بالضرورة أن يأتي الغازي محاربا قد يأتي مستثمر أو سائحا!!
.
"أدخلوها بسلام أمنين"
كلمة تقال على مصر من أيام النبي يوسف (لاحظ انها قيلت في بني إسرائيل!) .. و لكن .. من يدخلها هم الغزاة و ليس الضيوف .. فهذه الأرض لم يعد الله بها من خرجوا من صلبها .. مصيرهم الحرمان .. بينما هي للغزاة أمنة




المصدر : Amal Donqol أمل دنقل (http://go.3roos.com/d9j7ko0l3vp)

Anfas Elfajer
10/07/2012, 04:06 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/01341882236.jpg

سفر ألف دال
_________


(الإصحاح الأول)
القِطاراتُ ترحلُ فوق قضيبينِ: ما كانَ ما سيكُونْ!
والسماءُ: رمادٌ;.. به صنعَ الموتُ قهوتَهُ,
ثم ذَرّاه كي تَتَنَشَّقَه الكائناتُ,
فينسَلّ بينَ الشَّرايينِ والأفئِده.
كلُّ شيءٍ - خلال الزّجاج - يَفِرُّ:
رذاذُ الغبارِ على بُقعةِ الضَّوءِ,
أغنيةُ الرِّيحِ,
قَنْطرةُ النهرِ,
سِربُ العَصافيرِ والأعمِدهْ.
كلُّ شيءٍ يفِرُّ,
فلا الماءُ تُمسِكُه اليدُ,
والحُلْمُ لا يتبقَّى على شُرفاتِ العُيونْ.
***
والقطاراتُ تَرحلُ, والراحلونْ..
يَصِلُونَ.. ولا يَصلُونْ!
(الإصحاح الثاني)
سنترال:
أعطِ للفتياتِ
- اللواتي يَنَمْنَ الى جانب الآلةِ الباردةِ -
(شارداتِ الخيالْ)
رقمي; رقمَ الموتِ; حتى أجيءَ الى العُرْسِ..
ذي الليلةِ الواحِدهْ!
أَعطِه للرجالْ..
عِندما يلثُمُون حَبيباتهم في الصَّباحِ, ويرتحلونَ
الى جَبَهاتِ القِتالْ!!
(الإصحاح الثالث)
الشُهورُ: زُهُورٌ; على حافَةِ القَلبِ تَنْمو.
وتُحرقُها الشَّمسُ ذاتُ العُيون الشَّتائيَّةِ المُطفأهْ.
***
زهرةٌ في إناءْ
تتوهَّجُ - في أوَّلِ الحبِّ - بيني وبينَكِ..
تُصبحُ طفلاً.. وأرجوحةً.. وامرأة.
زهرةً في الرِّداء
تَتَفَتَّحُ أوراقُها في حَياءْ
عندما نَتَخَاصرُّ في المشْيةِ الهادِئه.
زهرةُ من غِناء
تَتَورَّدُ فوق كَمنجاتِ صوتكِ
حين تفاجئكِ القُبلةُ الدافِئه.
زهرةٌ من بُكاء
تتجمَّدُ - فوقَ شُجيرةِ عينيكِ - في لحظاتِ الشِّجارِ الصغيرةِ,
أشواكُها: الحزنُ.. والكِبرياءْ.
زهرةٌ فوق قبرٍ صغيـرْ
تنحني; وأنا أتحاشى التطلعَ نحوكِ..
في لحظات الودَاعِ الأَخيرْ.
تَتَعرَّى; وتلتفُّ بالدَّمعِ - في كلِّ ليلٍ - إذا الصَّمتُ جاءْ.
لم يَعُدْ غيرُها.. من زهورِ المسَاء
هذه الزهرةُ - اللؤلؤه!
(الإصحاح الرابع)
تحبلُ الفتياتْ
في زيارات أعمامِهنَّ الى العائله.
ثم.. يُجْهِضُهُنَّ الزحامُ على سُلَّم "الحافِله"
وترام الضَّجيج!
***
تذهبُ السَّيداتْ
ليُعَالجْنَ أسنانَهنَّ فَيُؤْمِنَّ بالوحْدَة الشامله!
ويُجِدْنَ الهوى بلِسانِ "الخليج"!
***
يا أبانا الذي صارَ في الصَّيدليَّات والعُلَبِ العازله
نجّنا من يدِ "القابِلهْ"
نَجنّا.. حين نقضُم - في جنَّة البؤسِ - تفّاحَةَ العَربات وثيابِ الخُروجْ!!
(الإصحاح الخامس)
تصْرخين.. وتخترقينَ صُفوفَ الجُنودْ.
نتعانقُ في اللحظاتِ الأخيرةِ,..
في الدرجاتِ الأخيرةِ.. من سلّم المِقصلَهْ.
أتحسَّسُ وجهَكِ!
(هل أنت طِفلتيَ المستحيلةُ أم أمِّيَ الأرملةْ?)
أتحسسُ وجهَكِ!
(لمْ أكُ أعمى;.
ولكنَّهم أرفقُوا مقلتي ويدي بمَلَفِّ اعترافي
لتنظرَه السلُطاتُ..
فتعرفَ أنِّيَ راجعتهُ كلمةً.. كلمةً..
ثم وَقَّعتُهُ بيدي..
- ربما دسَّ هذا المحقِّقُ لي جملةً تنتهي بي الى الموتِ!
لكنهمْ وعدوا أن يُعيدوا اليَّ يديَّ وعينيَّ بعدَ
انتهاءِ المحاكمة العادِلهْ!)
زمنُ الموتِ لا ينتهي يا ابنتي الثاكلهْ
وأنا لستُ أوَّلَ من نبَّأ الناسَ عن زمنِ الزلزلهْ
وأنا لستُ أوَّلَ من قال في السُّوقِ..
إن الحمامةَ - في العُشِّ - تحتضنُ القنبلهْ!.
قَبّلبيني;.. لأنقلَ سرِّي الى شفتيك,
لأنقل شوقي الوحيد
لك, للسنبله,
للزُهور التي تَتَبرْعمُ في السنة المقبلهْ
قبّليني.. ولا تدْمعي..
سُحُبُ الدمعِ تَحجبني عن عيونِك..
في هذه اللَّحظةِ المُثقله
كثُرتْ بيننا السُّتُرُ الفاصِله
لا تُضيفي إليها سِتاراً جديدْ!
(الإصحاح السادس)
كان يجلسُ في هذه الزاويهْ.
كان يكتبُ, والمرأةُ العاريهْ
تتجوَّل بين الموائِدِ; تعرضُ فتنتَها بالثَّمنْ.
عندما سألَتْه عَن الحَربِ;
قال لها..
لا تخافي على الثروةِ الغاليهْ
فعَدوُّ الوطنْ
مثلُنا.. يخْتتنْ
مثلنا.. يعشقُ السّلَعَ الأجنبيَّهْ,
يكره لحمَ الخنازيرِ,
يدفعُ للبندقيَّةِ.. والغانيهْ!
.. فبكتْ!
كان يجلسُ في هذه الزّاويهْ.
عندما مرَّت المرأةُ العاريهْ
ودعاها; فقالتْ له إنها لن تُطيل القُعودْ
فهي منذُ الصباحِ تُفَتّشُ مُستشفياتِ الجُنودْ
عن أخيها المحاصرِ في الضفَّةِ الثانيهْ
(عادتِ الأرضُ.. لكنَّه لا يعودْ!)
وحكَتْ كَيف تحتملُ العبءَ طِيلة غربتهِ القاسيهْ
وحكتْ كيفَ تلبسُ - حين يجيءُ - ملابسَها الضافيهْ
وأرَتْهُ لهُ صورةً بين أطفالِهِ.. ذاتَ عيد
.. وبكت!!
(الإصحاح السابع)
أشعر الآنَ أني وحيدٌ;..
وأن المدينةَ في الليلِ..
(أشباحَها وبناياتِها الشَّاهِقه)
سُفنٌ غارقه
نهبتْها قراصنةُ الموتِ ثم رمتْها الى القاعِ.. منذُ سِنينْ.
أسندَ الرأسَ ربَّانُها فوقَ حافتِها,
وزجاجةُ خمرٍ مُحطّمةٌ تحت أقدامهِ;
وبقايا وسامٍ ثمين.
وتشَبَّث بحَّارةُ الأمسِ فيها بأعمدةِ الصَّمتِ في الأَروِقه
يتسلَّل من بين أسمالِهم سمكُ الذكريات الحزينْ.
وخناجرُ صامتهٌ,..
وطحالبُ نابتهٌ,
وسِلالٌ من القِططِ النافقه.
ليس ما ينبضُ الآنَ بالروحِ في ذلك العالمِ المستكينْ
غير ما ينشرُ الموجُ من عَلَمٍ.. (كان في هبّةِ الريحِ)
والآن يفركُ كفَّيْهِ في هذه الرُّقعةِ الضيِّقه!
سَيظلُّ.. على السَّارياتِ الكَسيرةِ يخفقُ..
حتى يذوبَ.. رويداً.. رويداً..
ويصدأُ فيه الحنينْ
دون أن يلثمَ الريحَ.. ثانيةً,
أو.. يرى الأرضَ,
أو.. يتنهَّدَ من شَمسِها المُحرِقه!
(الإصحاح الثامن)
آهِ.. سَيدتي المسبلهْ.
آه.. سيدةَ الصّمتِ واللفتاتِ الوَدودْ.
***
لم يكنْ داخلَ الشقَّةِ المُقفله
غيرُ قطٍ وحيدْ.
حين عادت من السُّوق تحملُ سلَّتها المُثقله
عرفتْ أن ساعي البريدْ
مَرَّ..
(في فُتحةِ البابِ..
كان الخِطابُ,
طريحاً..
ككلبِ الشَّهيدْ!)
.. قفز القِطٌ في الولوله!
قفزت من شبابيكِ جيرانِها الأَسئِله
آه.. سيدةَ الصمتِ والكلماتِ الشَّرُودْ
آه.. أيتُها الأَرملَه!
(الإصحاح التاسع)
دائماً - حين أمشي - أرى السُّتْرةَ القُرمزيَّةَ
بينَ الزحام.
وأرى شعرَكِ المتهدِّلَ فوقَ الكتِف.
وأرى وجهَك المتبدِّلَ..
فوق مرايا الحوانيتِ,
في الصُّور الجانبيَّةِ,
في لفتاتِ البناتِ الوحيداتِ,
في لمعانِ خدودِ المُحبين عندَ حُلول الظلامْ.
دائماً أتحسَّسُ ملمَسَ كفِّك.. في كلِّ كفّ.
المقاهي التي وهبَتْنَا الشَّرابَ,
الزوايا التي لا يرانا بها الناس,
تلكَ الليالي التي كانَ شعرُكِ يبتلُّ فيها..
فتختبيئينَ بصدري من المطرِ العَصَبي,
الهدايا التي نتشاجرُ من أجلِها,
حلقاتُ الدخانِ التي تتجَمَّعُ في لحظاتِ الخِصام
دائماً أنتِ في المُنتصف!
أنتِ بيني وبين كِتابي,
وبيني وبينَ فراشي,
وبيني وبينَ هدُوئي,
وبيني وبينَ الكَلامْ.
ذكرياتُكِ سِّجني, وصوتكِ يجلِدني
ودمي: قطرةٌ - بين عينيكِ - ليستْ تجِفْ!
فامنحيني السَّلام!
امنحيني السَّلامْ!
(الإصحاح العاشر)
الشوارعُ في آخرِ اللّيل... آه..
أراملُ متَّشحاتٌ.. يُنَهْنِهْنَ في عَتباتِ القُبورِ - البيوتْ.
قطرةً.. قطرةً; تتساقطُ أدمُعُهنَّ مصابيحَ ذابلةً,
تتشبث في وجْنةِ الليلِ, ثم.. تموتْ!
الشوارعُ - في آخر الليلِ - آه..
خيوطٌ من العَنْكبوتْ.
والمَصابيحُ - تلكَ الفراشاتُ - عالقةٌ في مخالبِها,
تتلوَّى.. فتعصرها, ثم تَنْحَلُّ شيئاً.. فشيئا..
فتمتصُّ من دمها قطرةً.. قطرةً;
فالمصابيحُ: قُوتْ!
الشوارعُ - في آخرِ الليلِ - آه..
أفاعٍ تنامُ على راحةِ القَمرِ الأبديّ الصَّموتْ
لَمَعانُ الجلودِ المفضَّضةِ المُسْتَطيلةِ يَغْدُو.. مصابيحَ..
مَسْمومةَ الضوءِ, يغفو بداخلِها الموتُ;
حتى إذا غَرَبَ القمرُ: انطفأتْ,
وغَلى في شرايينها السُّمُّ
تَنزفُه: قطرةً.. قطرةً; في السُكون المميتْ!
وأنا كنتُ بينَ الشوارعِ.. وحدي!
وبين المصابيحِ.. وحدي!
أتصبَّبُ بالحزنِ بين قميصي وجِلْدي.
قَطرةً.. قطرةً; كان حبي يموتْ!
وأنا خارجٌ من فراديسِهِ..
دون وَرْقَةِ تُوتْ!

Anfas Elfajer
10/07/2012, 04:10 AM
عن قصيدة / سفر ألف دال
___________________

يعجبني كل الإعجاب المقطع الذي تبدأ به قصيدة أمل دنقل “سفر ألف دال” وهو عنوان مربك لمن لا يعرف شعر أمل أو يعرفه شخصيًا، فالمقطع الذي أشير إليه هو بداية قصيدة يضعها الشاعر عن نفسه، كأنه يصوغ سيرة شعرية عن ألف الذي هو أمل، ودال الذي هو دنقل وتبدأ القصيدة على النحو التالي:

القطارات ترحل فوق قضيبين: ما كان ـ ما سيكون
والسماء رماد به صنع الموت قهوته
ثم ذراه كي تتنشقه الكائنات
فينسل بين الشرايين والأفئدة
رذاذ الغبار على بقعة الضوء
أغنية الريح
قنطرة النهر
سرب العصافير والأعمدة
كل شيء يفرّ،
فلا الماء تمسكه اليد
والحلم لا يتبقى على شرفات العين.
هذا المقطع الافتتاحي ينطوي على درجة عالية من الكثافة الشعرية، تختزل الحياة كلها بعامة، وحياة الشاعر الخاصة، ما بين طرفي الوجود والعدم، أو ما بين الثنائية الضدية لفعل الكينونة المنقسم ما بين الماضي والمستقبل، في ثنائية تمتد بامتداد السماء التي صنع بها الموت قهوته، وذرى به الموت في أجوائها كي تتنشقه الكائنات، ويغدو له حال وجوده المنسرب في الشرايين والأفئدة، منتقلا منها إلى كل ما يتحرك في هذا العالم. والنتيجة هي حال من الموجود الموصول بالموت منذ البداية، أو ينسرب فيه الموت كما لو كان يضع بذرة العدم لكي تنبت أصل الشجرة التي يكون مآلها متضمنا في مبتداها، ولا شيء يقيني أو ثابت في هذا العالم، فكل حضور إلى غياب، وكل وجود إلى عدم، وكل ثابت إلى نقيضه الذي يفقده معناه هكذا، يفرّ كل شيء، سرب العصافير، الأعمدة التي لا تبين إلا لكي تختفي، والحلم الذي يبدو كالوهم، ما إن نراه حتى نفقده. وكيف يمكن أن تتحقق الرؤية في كون لا ثبات فيه لشيء، بل كيف يمكن لشيء أن يكتمل نموه وجرثومة العطب في أصل الشجرة، وكيف للشجرة نفسها أن يكتمل إثمارها وهي محكوم عليها بما يشبه الجدب؟ والنتيجة هي تحول الكون المشدود بين الماضي والحاضر إلى كون ينطوي على نقيضه، تماما كما ينطوي الوجود على العدم، والحياة على الموت. والسؤال كيف نواجه هذا العالم، وبأي وسيلة نتصدى للموت الساري في هوائه؟ لا شيء سوى الإبداع الذي هو انتزاع للوجود من العدم، والحضور من الغياب، والولادة من الموت، ولكن في مدى تغدو المحاولة فيه حضورا في ذاتها، والمقاومة رغبة عنيدة في صنع العالم حتى إن لم نستطع إكمال المهمة، فالأهم هو مواصلة المقاومة في امتداد السفر الذي يبدأ بالألف ولا ينتهى بالدال، فالحركة الكونية للوجود الدوار تظل مستمرة ومتواصلة بين نقيضين، ما كان وما سوف يكون، وبينهما يرمي الموت شباكه التي تنسدل على كل شيء منذرة بالنهاية التي هي بداية، أو البداية التي هي نهاية.



لــ / جابر عصفور .. الاتحاد (http://go.3roos.com/kdzajyho246)

Anfas Elfajer
10/07/2012, 04:14 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/11341882236.jpg

سفر الخروج
________


(أغنية الكعكة الحجرية)
(الإصحاح الأول)
أيها الواقِفونَ على حافةِ المذبحهْ
أَشهِروا الأَسلِحهْ!
سَقطَ الموتُ; وانفرطَ القلبُ كالمسبحَهْ.
والدمُ انسابَ فوقَ الوِشاحْ!
المنَازلُ أضرحَةٌ,
والزنازن أضرحَةٌ,
والمدَى.. أضرِحهْ
فارفَعوا الأسلِحهْ
واتبَعُوني!
أنا نَدَمُ الغَدِ والبارحهْ
رايتي: عظمتان.. وجُمْجُمهْ,
وشِعاري: الصَّباحْ!
(الإصحاح الثاني)
دَقت الساعةُ المُتعبهْ
رَفعت أمُّه الطيبهْ
عينَها..!
(دفعتهُ كُعُوبُ البنادقِ في المركَبه!)
دقتِ السَّاعةُ المتْعبه
نَهَضتْ; نَسَّقتْ مكتبه..
(صَفعته يَدٌ..
- أَدخلتْهُ يدُ اللهِ في التجرُبه!)
دقَّت السَّاعةُ المُتعبه
جَلسَت أمهُ; رَتَقَتْ جوربهْ...
(وخزنةُ عُيونُ المُحقَّقِ..
حتى تفجّر من جلدِه الدَّمُ والأجوبه!)
دقَّتِ السَّاعةُ المتعبهْ!
دقَّتِ السَّاعة المتعبهْ!
(الإصحاح الثالث)
عِندما تهبطينَ على سَاحةِ القَومِ, لا تَبْدئي بالسَّلامْ.
فهمُ الآن يقتَسِمون صغارَك فوقَ صِحَافِ الطعام
بعد أن أشعَلوا النارَ في العشِّ..
والقشِّ..
والسُّنبلهْ.!
وغداً يذبحونكِ..
بحثاً عن الكَنزِ في الحوصله!
وغداً تَغْتَدي مُدُنُ الألفِ عامْ.!
مدناً.. للخِيام!
مدناً ترتقي دَرَجَ المقصلهْ!
(الإصحاح الرابع)
دقّتِ الساعةُ القاسيهْ
وقفوا في ميادينها الجهْمةِ الخَاويهْ
واستداروا على دَرَجاتِ النُّصُبْ
شجراً من لَهَبْ
تعصفُ الريحُ بين وُريقاتِه الغضَّةِ الدانيه
فَيئِنُّ: "بلادي.. بلادي"
(بلادي البعيدهْ!)
دقت الساعةُ القاسيهْ
"انظروا.."; هتفتْ غانيهْ
تتلوى بسيارة الرقَمِ الجُمركيِّ;

Anfas Elfajer
10/07/2012, 04:16 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/21341882236.jpg (http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/21341882236.jpg)



صفحات من كتاب الصيف والشتاء
_______________________



1 - حمامة
حين سَرَتْ في الشارعِ الضَّوضاءْ
واندفَعَتْ سيارةٌ مَجنونةُ السَّائقْ
تطلقُ صوتَ بُوقِها الزاعقْ
في كبدِ الأَشياءْ:
تَفَزَّعَتْ حمامةٌ بيضاءْ
(كانت على تمثالِ نهضةِ مصرْ..
تَحْلُمُ في استِرخاءْ)
طارتْ, وحطَّتْ فوقَ قُبَّةِ الجامعةِ النُّحاسْ
لاهثةً, تلتقط الأَنفاسْ
وفجأةً: دندنتِ الساعه
ودقتِ الأجراسْ
فحلَّقتْ في الأُفْقِ.. مُرتاعهْ!
أيتُها الحمامةُ التي استقرَّتْ
فوقَ رأسِ الجسرْ
(وعندما أدارَ شُرطيُّ المرورِ يَدَهُ..
ظنتُه ناطوراً.. يصدُّ الطَّيرْ
فامتَلأتْ رعباً!)
أيتها الحمامةُ التَّعبى:
دُوري على قِبابِ هذه المدينةِ الحزينهْ
وأنشِدي للموتِ فيها.. والأسى.. والذُّعرْ
حتى نرى عندَ قُدومِ الفجرْ
جناحَكِ المُلقى..
على قاعدةِ التّمثالِ في المدينهْ
.. وتعرفين راحةَ السَّكينهْ!

Anfas Elfajer
10/07/2012, 04:18 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/31341882236.jpg

فقرات من كتاب الموت
_______________


- 1 -
كلَّ صَباح..
أفتحُ الصنبورَ في إرهاقْ
مُغتسِلاً في مائِه الرقْراقْ
فيسقُطُ الماءُ على يدي.. دَمَا!
وعِندما..
أجلسُ للطّعام.. مُرغما:
أبصرُ في دوائِر الأطباقْ
جماجِماً..
جماجِماً..
مفغورةَ الأفواهِ والأَحداقْ!!
- 2 -
أحفظُ رأسي في الخزائنِ الحديديّهْ
وعندما أبدأُ رِحلتي النهاريّة
أحمل في مكانِها.. مذياعا!
(أنشرُ حوليَ البياناتِ الحماسيّةَ.. والصُّدَاعا)
وبعد أن أعودَ في خِتامِ جولتي المسائيّة
أحملُ في مكان رأسي الحقيقيّه:
.. قنّينيةَ الخمرِ الزُجاجيّه!
أعودُ مخموراً الى بيتيَ..
في الليلِ الأخيرْ
يوقفُني الشرْطيُّ في الشّارع.. للشُّبْهه
يوقفُني.. برهه!
وبعد أن أرشُوَهُ.. أواصل المسير!

Anfas Elfajer
10/07/2012, 04:20 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/41341882236.jpg

خمس أغنيات إلى حبيبتي..!
____________________


على جناح طائر
مسافر..
مسافر..
تأتيك خمس أغنيات حب
تأتيك كالمشاعر الضريرة
من غربة المصب
إليك: يا حبيبتي الاميره
الأغنية الأولى
مازلت أنت.....أنت
تأتلقين يا وسام الليل في ابتهال صمت
لكن أنا ،
أنا هنـــــــا:
بلا (( أنا ))
سألت أمس طفلة عن اسم شارع
فأجفلت..........ولم ترد
بلا هدى أسير في شوارع تمتد
وينتهي الطريق إذا بآخـر يطل
تقاطعُ ،
تقاطع
مدينتي طريقها بلا مصير
فأين أنت يا حبيبتي
لكي نسير
معا......،
فلا نعود،
لانصل.
الأغنية الثانية
تشاجرت امرأتان عند باب بيتنا
قولهما علي الجدران صفرة انفعال
لكن لفظا واحدا حيرني مدلوله
قالته إحداهن للأخرى
قالته فارتعشت كابتسامة الأسرى
تري حبيبتي تخونني
أنا الذي ارش الدموع ..نجم شوقنا
ولتغفري حبيبتي
فأنت تعرفين أن زمرة النساء حولنا
قد انهدلت في مزلق اللهيب المزمنة
وانت يا حبيبتي بشر
في قرننا العشرين تعشقين أمسياته الملونة
قد دار حبيبتي بخاطري هذا الكدر
لكني بلا بصر:
أبصرت في حقيبتي تذكارك العريق
يضمنا هناك في بحيرة القمر
عيناك فيهما يصل ألف رب
وجبهة ماسية تفنى في بشرتها سماحة المحب
أحسست أني فوق فوق أن اشك
وأنت فوق كل شك
وإني أثمت حينما قرأت اسم ذلك الطريق
لذا كتبت لك
لتغفري
الأغنية الثالثة
ماذا لديك يا هوى
اكثر مما سقيتني
اقمت بها بلا ارتحال
حبيبتي: قد جاءني هذا الهوى
بكلمة من فمك لذا تركته يقيم
وظل ياحبيبتي يشب
حتى يفع
حتى غدا في عنفوان رب
ولم يعد في غرفتي مكان
ما عادت الجدران تتسع
حطمت يا حبيبتي الجدران
حملته ، يحملني ،
الى مدائن هناك خلف الزمن
اسكرته ، اسكرني
من خمرة أكوابها قليلة التوازن
لم افلت
من قبضة تطير بي الى مدى الحقيقة
بأنني أصبت،....اشتاق يا حبيبتي

Anfas Elfajer
10/07/2012, 04:42 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/01341884450.jpg

الزيارة
____


يقال لم يجئ..
وقيل: لا .. بل جاء بالأمس
واستقبلته في المطار بعثة الشرف
وأطلقوا عشرين طلقة- لدى وصوله-
وطلقة..في كبد الشمس
(لذا فإن الشمس لم تشرق علينا ذلك الصباح)
*
.. وقيل.. قيل إنه بعد مجئيه انصرف!
فلم يطب له المقام.
وقيل معشوقته هى التى لم ترض بالمقام
ثارت.. لأن كلبها الأثير لم يحتمل الحر..
فعافت نفسه الطعام
(أصدرت السلطات مرسوماً بأن يكف الطقس عن حرارته!!
لذا فإن الشمس لم تشرق علينا هذا الصباح)
*
من منكم الذي رأى صورته تنشر في صدارة الصحف
يقال إن أذنه مقطوعة الصوان!
هل شظيه في الحرب؟!
هل خنجر لأمرأة غيور؟
أم.. شده سيده منها مؤنباً..
ما فاقتلعتها يده في الجذب؟!
وقيل إن أنفه ملتهب من الشراب
ويدمن النساء في نداوة الشباب
(فهومن الفرسان في هذا المجال:
قرر أن ينضم باسم شعبة للأمم المتحده..
حين رأى موظفاتها بديعات الجمال ! )
أنّى مشى..تحوطه حاشيه من النساء
يكسفن وجه الشمس أو يخسفن القمر
(لذا فإن الشمس لم تشرق علينا هذا الصباح )
***
ظللتُ أصغي للذي يشيع
حتى تهدلت على أذني أقاويل الوشاة
لكنني...حين أويت في نهاية المساء
عثرت في الراديو على محطة تغدق فوقه الثناء
تقول عنه..انه لولاه..ما تساقط المطر
ولا تبلور الندى...ولا تنفس الشجر
ولا تدفأت عاصفير الشتاء
..كان المذيع لاينأى يقول
يصفه بأنه حامي حمى الدين المنيع
وانه ينهج في حياته نهج الرسول
****
ترى ..أكان صدقا ما تتناقل الشفاه ؟!؟
أم كان صدقا مايقوله المذيع؟!؟

Anfas Elfajer
10/07/2012, 04:44 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/11341884450.jpg

إلى صديقة دمشقية
____________


إذا سباكِ قائدُ التتار
وصرتِ محظية..
فشد شعرا منك سعار
وافتض عذرية..
واغرورقت عيونك الزرق السماوية
بدمعة كالصيف ، ماسية
وغبت في الأسوار ،
فمن ترى فتح عين الليل بابتسامة النهار؟
***
مازلتِ رغم الصمت والحصار
أذكر عينيك المضيئتين من خلف الخمار
وبسمة الثغر الطفولية..
أذكر أمسياتنا القصار
ورحلة السفح الصباحية
حين التقينا نضرب الأشجار
ونقذف الأحجار
في مساء فسقية !
****
قلتِ – ونحن نسدل الأستار
في شرفة البيت الأمامية:
لاتبتعد عني
انظرْ إلى عيني
هل تستحق دمعةً من أدمع الحزن؟
ولم أجبكِ، فالمباخر الشآمية
والحب والتذكار
طغت على لحني
لم تبق مني وهم ، أغنية !
وقلتُ ، والصمت العميق تدقه الأمطار
على الشوارع الجليدية:
عدتُ إليك..بعد طول التيه في البحار
أدفن حزني في عبير الخصلات الكستنائية
أسير في جناتك الخضر الربيعية
أبلٌ ريق الشوق من غدرانها ،
أغسل عن وجهي الغبار!!
نافحتُ عنك قائد التتار
رشقتُ في جواده..مدية
لكنني خشيت أن تَمسّكِ الأخطار
حين استحالت في الدجى الرؤية
لذا استطاع في سحابة الغبار
ان يخطف العذراء....تاركا على يدي الأزرار
كالوهم ، كالفريه !
.......... ............ .........
(......ما بالنا نستذكر الماضي ، دعي الأظفار...
لا تنبش الموتى ، تعرى حرمة الأسرار.....)
****
يا كم تمنت زمرة الأشرار
لو مزقوا تنورة في الخصر...بُنيّة
لو علموك العزف في القيثار
لتطربيهم كل امسية
حتى إذا انفضت أغنياتك الدمشقية
تناهبوك ؛ القادة الأقزام..والأنصار
ثم رموك للجنود الانكشارية
يقضون من شبابك الأوطار
****
الآن...مهما يقرع الإعصار
نوافذ البيت الزجاجية ،
لن ينطفي في الموقد المكدود رقص النار
تستدفئ الأيدى على وهج العناق الحار
كي تولد الشمس التي نختار
في وحشة الليل الشتائية!

Anfas Elfajer
10/07/2012, 04:45 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/21341884450.jpg

العشاء ..!
_______


قصدتهم في موعد العشاء
تطالعوا لي برهة ،
ولم يرد واحد منهم تحية المساء !
......وعادت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة
في طبق الحساء
........ ....... .........
نظرت في الوعـــاء :
هتفت : (( ويحكم ....دمي
هذا دمي .....فانتبهوا ))
........لم يــأبهوا !
وظلّت الأيدي تراوح الملاعق الصغيرة
وظلت الشفاة تلعق الدماء !

Anfas Elfajer
10/07/2012, 04:47 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/31341884450.jpg

مقتل القمر
________


....وتناقلوا النبأ الأليم على بريد الشمس
في كل مدينة ،
(( قُتِل القمـــر ))!
شهدوه مصلوباً تَتَدَلَّى رأسه فوق الشجر !
نهب اللصوص قلادة الماس الثمينة من صدره!
تركوه في الأعواد ،
كالأسطورة السوداء في عيني ضرير
ويقول جاري :
-(( كان قديساً ، لماذا يقتلونه ؟))
وتقول جارتنا الصبية :
- (( كان يعجبه غنائي في المساء
وكان يهديني قوارير العطور
فبأي ذنب يقتلونه ؟
هل شاهدوه عند نافذتي _قبيل الفجر _ يصغي للغناء!؟!؟))
..... ........ .......
وتدلت الدمعات من كل العيون
كأنها الأيتام – أطفال القمر
وترحموا...
وتفرقوا.....
فكما يموت الناس.....مات !
وجلست ،
أسأله عن الأيدي التي غدرت به
لكنه لم يستمع لي ،
..... كان مات !
****
دثرته بعباءته
وسحبت جفنيه على عينيه...
حتى لايرى من فارقوه!
وخرجت من باب المدينة
للريف:
يا أبناء قريتنا أبوكم مات
قد قتلته أبناء المدينة
ذرفوا عليه دموع أخوة يوسف
وتفرَّقوا
تركوه فوق شوارع الإسفلت والدم والضغينة
يا أخوتي : هذا أبوكم مات !
- ماذا ؟ لا.......أبونا لا يموت
- بالأمس طول الليل كان هنا
- يقص لنا حكايته الحزينة !
- يا أخوتي بيديّ هاتين احتضنته
أسبلت جفنيه على عينيه حتى تدفنوه !
قالوا : كفاك ، اصمت
فإنك لست تدري ما تقول !
قلت : الحقيقة ما أقول
قالوا : انتظر
لم تبق إلا بضع ساعات...
ويأتي!
***
حط المساء
وأطل من فوقي القمر
متألق البسمات ، ماسيّ النظر
- يا إخوتي هذا أبوكم ما يزال هنا
فمن هو ذلك المُلْقىَ على أرض المدينة ؟
قالوا: غريب
ظنه الناس القمر
قتلوه ، ثم بكوا عليه
ورددوا (( قُتِل القمر ))
لكن أبونا لا يموت
أبداً أبونا لايموت !

Anfas Elfajer
10/07/2012, 04:55 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/41341884450.jpg

الوقوف على قدم واحدة!
________________


كادت تقول لى ((من أنت ؟))
.. .. .. ..
(.. العقرب الأسود كان يلدغ الشمس ..
وعيناه الشّهيتان تلمعان ! )
_أأنت ؟!
لكنّى رددت باب وجهى .. واستكنت
(.. عرفت أنّها ..
تنسى حزام خصرها .
فى العربات الفارهة !
***
أسقط فى أنياب اللحظات الدنسة
أتشاغل بالرشفة من كوب الصمت المكسور
بمطاردة فراش الوهم المخمور
أتلاشى فى الخيط الواهن :
ما بين شروع الخنجر .. والرقبة
ما بين القدم العاربة وبين الصحراء الملتهبة
ما بين الطلّقة .. والعصفور .. والعصفور !
***
يهتزّ قرطها الطويل ..
يراقص ارتعاش ظلّه ..
على تلفّتات العنق الجميل
وعندما تلفظ بذر الفاكهة
وتطفىء التبغة فى المنفضة العتيقة الطراز
تقول عيناها : استرح !
والشفتان .. شوكتان !!
***
(تبقّين أنت : شبحا يفصل بين الأخوين
وعندما يفور كأس الجعة المملوء ..
فى يد الكبير :
يقتلك المقتول مرتين!
أتأذنين لى بمعطفى
أخفى به ..
عورة هذا القمر الغارق فى البحيرة
عورة هذا المتسول الأمير
وهو يحاور الظلال من شجيرة إلى شجيرة
يطالع الكفّ لعصفور مكسّر الساقين
يلقط حبّة العينين
لأنه صدّق _ ذات ليلة مضت _
عطاء فمك الصغير ..
عطاء حلمك القصير ..

Anfas Elfajer
10/07/2012, 09:38 PM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/01341945311.jpg
فى انتظار السيف (يوليو 1970)
_____________________


وردة فى عروة السّرة:
ماذا تلدين الآن ؟
طفلا .. أم جريمة ؟
أم تنوحين على بوّابة القدس القديمة؟
عادت الخيل من المشرق،
عاد (الحسن الأعصم ) والموت المغير
بالرداء الأرجوانىّ ، وبالوجه اللصوصى ،
وبالسيف الأجير
فانظرى تمثاله الواقف فى الميدان ..
(يهتّز مع الريح .!)
انظرى من فرجة الشبّاك :
أيدى صبية مقطوعة ..
مرفوعة .. فوق السّنان
(..مردفا زوجته الحبلى على ظهر الحصان)
أنظرى خيط الدم القانى على الأرض
((هنا مرّ .. هنا ))
فانفقأت تحت خطى الجند ...
عيون الماء ،
واستلقت على التربة .. قامات السنابل .
ثم..ها نحن جياع الأرض نصطف ..
لكى يلقى لنا عهد الأمان .
ينقش السكة باسم الملك الغالب ،
يلقى خطبة الجمعة باسم الملك الغالب ،
يرقى منبر المسجد ..
بالسيف الذى يبقر أحشاء الحوامل .
***
تلدين الآن من يحبو..
فلا تسنده الأيدى ،
ومن يمشى .. فلا يرفع عينيه الى الناس ،
ومن يخطفه النخّاس :
قد يصبح مملوكا يلوطون به فى القصر،
يلقون به فى ساحة الحرب ..
لقاء النصر ،
هذا قدر المهزوم :
لا أرض .. ولا مال .
ولا بيت يردّ الباب فيه ..
دون أن يطرقه جاب ..
وجندى رأى زوجته الحسناء فى البيت المقابل)
أنظرى أمّتك الأولى العظيمة
أصبحت : شرذمة من جثث القتلى ،
وشحّادين يستجدون عطف السيف
والمال الذى ينثره الغازى ..
فيهوي ما تبقى من رجال ..
وأرومة .
أنظرى ..
لا تفزعى من جرعة الخزى،
أنظرى ..
حتى تقيئي ما بأحشائك ..
من دفء الأمومة .
***
تقفز الأسواق يومين ..
وتعتاد على ((النقد)) الجديد
تشتكى الأضلاع يومين ..
وتعتاد على السوط الجديد
يسكت المذياع يومين
ويعتاد على الصوت الجديد
وأنا منتظر .. جنب فراشك
جالس أرقب فى حمّى ارتعاشك_
صرخة الطفل الذى يفتح عينيه ..
على مرأى الجنود!

Anfas Elfajer
10/07/2012, 10:21 PM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/11341945311.jpg

بكائية ليلية
_______


للوهلة الأولى
قرأت في عينيه يومه الذي يموت فيه
رأيته في صحراء " النقب " مقتولا ..
منكفئا .. يغرز فيها شفتيه ،
و هي لا تردّ قبلة ..لفيه !
كنا نتوه في القاهرة العجوز ، ننسى الزمنا
نفلت من ضجيج سياراتها ، و أغنيات المتسوّلين
تظلّنا محطّة المترو مع المساء .. متعبين
و كان يبكي وطنا .. و كنت أبكي وطنا
نبكي إلى أن تنضبّ الأشعار
نسألها : أين خطوط النار ؟
و هل ترى الرصاصة الأولى هناك .. أم هنا ؟
و الآن .. ها أنا
أظلّ طول اللّيل لا يذوق جفني وسنا
أنظر في ساعتي الملقاة في جواري
حتّى تجيء . عابرا من نقط التفتيش و الحصار
تتّسع الدائرة الحمراء في قميصك الأبيض ، تبكي شجنا
من بعد أن تكسّرت في " النقب " رايتك !
تسألني : " أين رصاصتك ؟ "
" أين رصاصتك "
ثمّ تغيب : طائرا .. جريحا
تضرب أفقك الفسيحا
تسقط في ظلال الضّفّة الأخرى ، و ترجو كفنا !
و حين يأتي الصبح – في المذياع – بالبشائر
أزيح عن نافذتي السّتائر
فلا أراك .. !
أسقط في عاري . بلا حراك
أسأل إن كانت هنا الرصاصة الأولى ؟
أم أنّها هناك ؟؟

Anfas Elfajer
10/07/2012, 10:28 PM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/21341945311.jpg

الموت في لوحات
____________

(1)

مصفوفة حقائبي على رفوف الذاكرة
و السفر الطويل ..
يبدأ دون أن تسير القاطرة !
رسائلي للشمس ..
تعود دون أن تمسّ !
رسائلي للأرض ..
تردّ دون أن تفضّ !
يميل ظلّي في الغروب دون أن أميل !
و ها أنا في مقعدي القانط .
وريقة .. و ريقة .. يسقط عمري من نتيجة الحائط
و الورق الساقط
يطفو على بحيرة الذكرى ، فتلتوي دوائرا
و تختفي .. دائرة .. فدائرة !



(2)

شقيقتي " رجاء " ماتت و هي دون الثالثة .
ماتت و ما يزال في دولاب أمّي السّري
صندلها الفضّيّ!
صديرها المشغول ، قرطها ، غطاء رأسها الصّوفيّ
أرنبها القطنيّ !
و عندما أدخل بهو بيتنا الصامت
فلا أراها تمسك الحائط .. علّها تقف !
أنسى بأنّها ماتت ..
أقول . ربّما نامت ..
أبحث عنها في الغرف .
و عندما تسألني أمّي بصوتها الخافت
أرى الأسى في وجهها الممتقع الباهت
و أستبين الكارثة !



(4)

من شرفتي كنت أراها في صباح العطلة الهاديء
تنشر في شرفتها على خيوط النور و الغناء
ثياب طفليها ، ثياب زوجها الرسميّة الصفراء
قمصانه المغسولة البيضاء
تنشر حولها نقاء قلبها الهانيء
و هي تروح و تجيء
... ... ... ... ... ... ...
و الآن بعد أشهر الصيف الرديء
رأيتها .. ذابلة العينين و الأعضاء
تنشر في شرفتها على حبال الصّمت و البكاء
ثيابها السوداء !

Anfas Elfajer
10/07/2012, 10:33 PM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/31341945311.jpg

مزامير
____

(2)

المزمور الثاني
قلت لها في اللّيلة الماطرة
البحر عنكبوت
و أنت – في شراكه – فراشة تموت
و انتفضت كالقطّة النافره
و انتصبت في خفقان الريح و الأمواج
( ثديان من زجاج
و جسد من عاج )
و انفلتت مبحرة في رحلة المجهول ، فوق الزّبد المهتاج
ناديت .. ما ردّت !
صرخت .. ما ارتدّت !
و ظلّ صوتي يتلاشى .. في تلاشيها ..
وراء الموجة الكاسرة )
... .... ....
( خاسرة ، خاسرة
إن تنظري في الغريمة الساحرة
أو ترفعي عينيك نحو الماسة التي تزيّن التاج ! )



(3)

لفظ البحر أعضاءها في صباح أليم
فرأيت الكلوم
ورأيت أظافرها الدمويّة
تتلوّى على خصلة " ذهبيّة "
فحشوت جراحاتها بالرمال ،
و أدفأتها بنبيذ الكروم .
... ... ... ....
و تعيش معي الآن !
ما بيننا حائط من وجوم
بيننا نسمات " الغريم "
كلّ أمسية ..
تتسلّل في ساعة المد ، في الساعة القمريّة
تستريح على صخرة الأبديّة
تتسمّع سخرية الموج من تحت أقدامها
و صفير البواخر .. راحلة في السواد الفحميم
تتصاعد من شفتيها المملّحتين رياح السموم
تتساقط أدمعها في سهوم
و النجوم
( الغريقة في القاع )
تصعد ... واحدة .. بعد أخرى ..
فتلقطها
و تعدّ النجوم
في انتظار الحبيب القديم !

Anfas Elfajer
11/07/2012, 03:57 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/01341967757.jpg

كلمات سبارتكوس الأخيرة
___________________


( مزج أوّل ) :
******************
من قال " لا " في وجه من قالوا " نعم "
من علّم الإنسان تمزيق العدم
من قال " لا " .. فلم يمت ,
وظلّ روحا أبديّة الألم !
( مزج ثان ) :
معلّق أنا على مشانق الصباح
و جبهتي – بالموت – محنيّة
لأنّني لم أحنها .. حيّه !
... ...
يا اخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين
منحدرين في نهاية المساء
في شارع الاسكندر الأكبر :
لا تخجلوا ..و لترفعوا عيونكم إليّ
لأنّكم معلقون جانبي .. على مشانق القيصر
فلترفعوا عيونكم إليّ
لربّما .. إذا التقت عيونكم بالموت في عينيّ
يبتسم الفناء داخلي .. لأنّكم رفعتم رأسكم .. مرّه !
" سيزيف " لم تعد على أكتافه الصّخره
يحملها الذين يولدون في مخادع الرّقيق
و البحر .. كالصحراء .. لا يروى العطش
لأنّ من يقول " لا " لا يرتوي إلاّ من الدموع !
.. فلترفعوا عيونكم للثائر المشنوق
فسوف تنتهون مثله .. غدا
و قبّلوا زوجاتكم .. هنا .. على قارعة الطريق
فسوف تنتهون ها هنا .. غدا
فالانحناء مرّ ..
و العنكبوت فوق أعناق الرجال ينسج الردى
فقبّلوا زوجاتكم .. إنّي تركت زوجتي بلا وداع
و إن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها بلا ذراع
فعلّموه الانحناء !
علّموه الانحناء !
الله . لم يغفر خطيئة الشيطان حين قال لا !
و الودعاء الطيّبون ..
هم الذين يرثون الأرض في نهاية المدى
لأنّهم .. لا يشنقون !
فعلّموه الانحناء ..
و ليس ثمّ من مفر
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كلّ قيصر يموت : قيصر جديد !
وخلف كلّ ثائر يموت : أحزان بلا جدوى ..
و دمعة سدى !
( مزج ثالث ) :
يا قيصر العظيم : قد أخطأت .. إنّي أعترف
دعني- على مشنقتي – ألثم يدك
ها أنذا أقبّل الحبل الذي في عنقي يلتف
فهو يداك ، و هو مجدك الذي يجبرنا أن نعبدك
دعني أكفّر عن خطيئتي
أمنحك – بعد ميتتي – جمجمتي
تصوغ منها لك كأسا لشرابك القويّ
.. فان فعلت ما أريد :
إن يسألوك مرّة عن دمي الشهيد
و هل ترى منحتني " الوجود " كي تسلبني " الوجود "
فقل لهم : قد مات .. غير حاقد عليّ
و هذه الكأس – التي كانت عظامها جمجمته –
وثيقة الغفران لي
يا قاتلي : إنّي صفحت عنك ..
في اللّحظة التي استرحت بعدها منّي :
استرحت منك !
لكنّني .. أوصيك إن تشأ شنق الجميع
أن ترحم الشّجر !
لا تقطع الجذوع كي تنصبها مشانقا
لا تقطع الجذوع
فربّما يأتي الربيع
" و العام عام جوع "
فلن تشم في الفروع .. نكهة الثمر !
وربّما يمرّ في بلادنا الصيف الخطر
فتقطع الصحراء . باحثا عن الظلال
فلا ترى سوى الهجير و الرمال و الهجير و الرمال
و الظمأ الناريّ في الضلوع !
يا سيّد الشواهد البيضاء في الدجى ..
يا قيصر الصقيع !
( مزج رابع ) :
يا اخوتي الذين يعبرون في الميدان في انحناء
منحدرين في نهاية المساء
لا تحلموا بعالم سعيد ..
فخلف كلّ قيصر يموت : قيصر جديد .
و إن رأيتم في الطريق " هانيبال "
فأخبروه أنّني انتظرته مديّ على أبواب " روما " المجهدة
و انتظرت شيوخ روما – تحت قوس النصر – قاهر الأبطال
و نسوة الرومان بين الزينة المعربدة
ظللن ينتظرن مقدّم الجنود ..
ذوي الرؤوس الأطلسيّة المجعّدة
لكن " هانيبال " ما جاءت جنوده المجنّدة
فأخبروه أنّني انتظرته ..انتظرته ..
لكنّه لم يأت !
و أنّني انتظرته ..حتّى انتهيت في حبال الموت
و في المدى : " قرطاجه " بالنار تحترق
" قرطاجه " كانت ضمير الشمس : قد تعلّمت معنى الركوع
و العنكبوت فوق أعناق الرجال
و الكلمات تختنق
يا اخوتي : قرطاجة العذراء تحترق
فقبّلوا زوجاتكم ،
إنّي تركت زوجتي بلا وداع
و إن رأيتم طفلى الذي تركته على ذراعها .. بلا ذراع
فعلّموه الانحناء ..
علّموه الانحناء ..
علّموه الانحناء ..

Anfas Elfajer
11/07/2012, 04:06 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/11341967757.jpg

قالت
___


قالت : تعال إليّ
واصعد ذلك الدرج الصغير
قلت : القيود تشدّني
و الخطو مضنى لا يسير
مهما بلغت فلست أبلغ ما بلغت
وقد أخور
درج صغير
غير أنّ طريقه .. بلا مصير
فدعي مكاني للأسى
وامضي إلى غدك الأمير
فالعمر أقصر من طموحي
و الأسى قتل الغدا
***
قالت : سأنزل
قلت : يا معبودتي لا تنزلي لي
قالت : سأنزل
قلت : خطوك منته في المستحيل
ما نحن ملتقيان
رغم توحّد الأمل النبيل
... ...
نزلت تدقّ على السكون
رنين ناقوس ثقيل
و عيوننا متشابكات في أسى الماضي الطويل
تخطو إليّ
و خطوها ما ضلّ يوما عن سبيل
و بكى العناق
و لم أجد إلاّ الصدى
إلاّ الصدى

Anfas Elfajer
11/07/2012, 04:07 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/21341967757.jpg

استريحي !
________


استريحي
ليس للدور بقيّة
انتهت كلّ فصول المسرحيّة
فامسحي زيف المساحيق
و لا ترتدي تلك المسوح المرميّة
و اكشفي البسمة عمّا تحتها
من حنين .. و اشتهاء .. و خطيّة
كنت يوما فتنة قدسّتها
كنت يوما
ظمأ القلب .. وريّه
***
لم تكوني أبدا لي
إنّما كنت للحبّ الذي من سنتين
قطف التفاحتين
ثمّ ألقى
ببقايا القشرتين
و بكى قلبك حزنا
فغدا دمعة حمراء
بين الرئتين
و أنا ؛ قلبي منديل هوى
جففت عيناك فيه دمعتين
و محت فيه طلاء الشّفتين
و لوته ..
في ارتعاشات اليدين
كان ماضيك جدار فاصلا بيننا
كان ضلالا شبحيّه
فاستريحي
ليس للدور بقيّة
أينما نحن جلسنا
ارتسمت صورة الآخر في الركن القصيّ
كنت تخشين من اللّمسة
أن تمحي لمسته في راحتي
و أحاديثك في الهمس معي
إنّما كانت إليه ..
لا إليّ
فاستريحي
لم يبق سوى حيرة السير على المفترق
كيف أقصيك عن النار
و في صدرك الرغبة أن تحترقي ؟
كيف أدنيك من النهر
و في قلبك الخوف و ذكرى الغارق ؟
أنا أحببتك حقّا
إنّما لست أدري
أنا .. أم أنت الضحيّة ؟
فاستريحي ، ليس للدور بقيّة

Anfas Elfajer
11/07/2012, 04:09 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/31341967757.jpg

العار الذي نتّقيه
___________


هذا الذي يجادلون فيه
قولي لهم عن أمّه ، و من أبوه
أنا و أنت .
حين أنجبناه ألقيناه فوق قمم الجبال كي يموت !
لكنّه ما مات
عاد إلينا عنفوان ذكريات
لم نجتريء أن نرفع العيون نحوه
لم نجتريء أن نرفع العيون
نحو عارنا المميت
***
ها طفلنا أمامنا غريب
ترشفه العيون و الظنون بازدرائها
و نحن لا نجيب
( و ربّما لو لم يكن من دمنا
كنّا مددنا نحوه اليدا
كنّا تبنّيناه راحمين نبله المهين )
لكنّه .. ما زال يقطع الدروب
يقطع الدروب
و في عيوننا الأسى المريب
***
" أوديب " عاد باحثا عن اللذين ألقيناه للردى
نحن اللّذان ألقياه للردى
و هذه المرّه لن نضيعه
و لن نتركه يتوه
ناديه
قولي إنّك أمّه التي ضنت عليه بالدفء
و بالبسمة و الحليب
قولي له أنّي أبوه
( هل يقتلني ؟ ) أنا أبوه
ما عاد عارا نتّقيه
العار : أن نموت دون ضمّه
من طفلنا الحبيب
من طفلنا " أوديب "

Anfas Elfajer
11/07/2012, 04:11 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/41341967757.jpg

رسالة من الشمال
____________


بعمر – من الشوك – مخشوشن
بعرق من الصيف لم يسكن
بتجويف حبّ ، به كاهن
له زمن .. صامت الأرغن :
أعيش هنا
لا هنا ، إنّني
جهلت بكينونتي مسكني
غدي : عالم ضلّ عنّي الطريق
مسالكه للسدى تنحني
علاماته .. كانثيال الوضوء
على دنس منتن . منتن
تفح السواسن سمّ العطور
فأكفر بالعطر و السوسن
و أفصد و همي ... لأمتصّه
فيمتصّني الوهم ، يمتصّني ..
***
ملاكي : أنا في شمال الشمال
أعيش .. ككأس بلا مدمن
ترد الذباب انتظارا ، و تحسو
جمود موائدها الخوّن
غريب الحظايا ، بقايا الحكايا
من اللّيل لليل تستلنّي
أرشّ ابتسامتي على كلّ وجه
توسّد في دهنه اللّين
و يجرحني الضوء في كلّ ليل
مرير الخطى ، صامت ، محزن
سربيت به – كالشعاع الضئيل –
إلى حيث لا عابر ينثني
هي اسكندريّة بعد المساء
شتائيّة القلب و المحضن
شوارعها خاويات المدى
سوى : حارس بي لا يعتني
ودودة كلبين كي ينسلا
ورائحة الشّبق المزمن
ملاكي .. ملاكي .. تساءل عنك
اغتراب التفرّد في مسكني
سفحت لك اللّحن عبر المدى
طريقا إلى المبتدأ ردّني
و عيناك : فيروزتان تضيئان
في خاتم الله .. كالأعين
تمدّان لي في المغيب الجناح
مدى ، خلف خلف المدى الممعن
سألتهما في صلاة الغروب
عن الحبّ ، و الموت ، و الممكن
و لم تذكرا لي سوى خلجة
من الهدب قلت لها : هيمني !
هواي له شمس تنهيدة
إلى اليوم بالموت لو تؤمن
و كانت لنا خلوة ، إن غدا
لها الخوف أصبح في مأمن
مقاعدها ما تزال النجوم
تحجّ إلى صمتها المؤمن
حكينا لها ، و قرأنا بها
بصوت على الغيب مستأذن
دنّوا ، دنّوا ففي جعبتي
حكايات حبّ سنى ، سنى
صقلت به الشمس حتّى غدت
مرايا مساء لتزيّني
وصفت لك النجم عقدا من
الماس شعّ على صدرك المفتنى
أردتك قبل وجود الوجود
وجودا لتخليده لم أن
تغرّبت عنك ، لحيث الحياة
مناجم حلم بلا معدن و دورة كلبين ينسلّا
ورائحة الشّبق المزمن
***
ملاكي : ترى ما يزال الجنوب
مشارق للصيف لم تعلن
ضممت لصدري تصاويرنا
تصاوير تبكي على المقتنى
سآتي إليك أجر المسير
خطى في تصلبّها المذعن
سآتي إليك كسيف تحطّم
في كفّ فارسه المثخن
سآتي إليك نحيلا .. نحيلا
كخيط من الحزن لم يحزن
***
أنا قادم من شمال الشمال
لعينين – في موطني – موطني !

Anfas Elfajer
11/07/2012, 04:12 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/51341967757.jpg

أوتوجراف
_______


لن أكتب حرفا فيه
فالكلمة – إن تكتب – لا تكتب
من أجل الترفيه
( و الأوتوجراف الصامت تنهدل الكلمات عليه ،
تحيّيه
و تطرّز كلّ مثانيه !
ماضيك
و ماضي الأوتوجراف –
بقايا شوق مشبوه
بصمات الذكرى فيك ، وفيه
و خطى العشّاق المحمومه أدمت كلّ دواليه
لكنّي أطرد كلّ ذباب الماضي عن بابي
فدعيه
غيري قد يصبح سطرا من ورق
يقلّبه من يجهله أو من يدريه
غيري قد ينبش تابوتا برّاق اللّون
تعفّن خافيه
لكنّي أطرد كلّ ذباب الذكرى
عن غدي المشدوه
عن ثوبي ، و طعامي ، و فراشي
عن خطوة تيهى
.................
يا أصغر من كلماتي
لن أكتب فيه
فخطى العشّاق المحمومة أدمت كلّ دواليه !

Anfas Elfajer
11/07/2012, 04:48 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/01341971229.jpg

شبيهتهـا !!
________


انتظري !
ما اسمك ؟
يا ذات العيون الخضر و الشعر الثري
أشبهت في تصوّري
( بوجهك المدوّر )
حبيبة أذكرها .. أكثر من تذكّري
يا صورة لها على المرآة ، لم تكسر
حبيبتي – مثلك –
لم تشبه جميع البشر
عيونها حدائق حافلة بالصور
أبصرتها اليوم بعينيك
اللّتين في عمري ..
طفولة .. منذ اتّزان الخطو لم تنحسر
***
يا ظلّ صيف أخضر
تصوّري
كم أشهر و أشهر
مرّت و لسنا نلتقي
مرّت .. و لم نخضوضر
الماس في مناجمي
مشوّه التبلور
و الذكريات في دمى
عاصفة التحرّر
كرقصة ناريّة من فتيات الغجر
................................
لكنّني حين رأيت الآن صورة لها
في مهجري
أيقنت أنّ ماسنا ما زال
حيّ الجوهر
و أنّنا سنلتقي
رغم رياح القدر
و أنّني في فمك المستضحك المستبشر
أغنية للقمر
أغنية ترقص فيها القرويّات
في ليالي السّمر
***
يا ظلّ صيف أخضر
تصوّري
كم أشهر و أشهر
مغتربا عن العيون الخضر و الشعر الثريّ

Anfas Elfajer
11/07/2012, 04:51 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/11341971229.jpg

العينان الخضراوان
____________


العينان الخضراوان
مروّحتان
في أروقة الصيف الحرّان
أغنيتان مسافرتان
أبحرتا من نايات الرعيان
بعبير حنان
بعزاء من آلهة النور إلى مدن الأحزان
سنتان
و أنا أبني زورق حبّ
يمتد عليه من الشوق شراعان
كي أبحر في العينين الصافيتين
إلى جزر المرجان
ما أحلى أن يضطرب الموج فينسدل الجفنان
و أنا أبحث عن مجداف
عن إيمان !
***
في صمت " الكاتدرائيات " الوسنان
صور " للعذراء " المسبّلة الأجفان
يا من أرضعت الحبّ صلاة الغفران
و تمطي في عينيك المسبّلتين
شباب الحرمان
ردّي جفنيك
لأبصر في عينيك الألوان
أهما خضراوان
كعيون حبيبي ؟
كعيون يبحر فيها البحر بلا شطآن
يسأل عن الحبّ
عن ذكرى
عن نسيان !
و العينان الخضراوان
مروّحتان !

Anfas Elfajer
11/07/2012, 05:31 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/21341971229.jpg

الملهى الصغير
___________


لم يعد يذكرنا حتّى المكان !
كيف هنّا عنده ؟
و الأمس هان؟
قد دخلنا ..
لم تنشر مائدة نحونا !
لم يستضفنا المقعدان !!
الجليسان غريبان
فما بيننا إلاّ . ظلال الشمعدان !
أنظري ؛
قهوتنا باردة
ويدانا - حولها – ترتعشان
وجهك الغارق في أصباغه
رسما
( ما ابتسما ! )
في لوحة خانت الرسّام فيها ..
لمستان !
تسدل الأستار في المسرح
فلنضيء الأنوار
إنّ الوقت حان
أمن الحكمة أن نبقى ؟
سدة !!
قد خسرنا فرسينا في الرهان !
قد خسرنا فرسينا في الرهان
مالنا شوط مع الأحلام
ثان !!
نحن كنّا ها هنا يوما
و كان وهج النور علينا مهرجان
يوم أن كنّا صغارا
نمتطي صهوة الموج
إلى شطّ الأمان
كنت طفلا لا يعي معنى الهوى
و أحاسيسك مرخاه العنان
قطّة مغمضة العينين
في دمك البكر لهيب الفوران
عامنا السادس عشر :
رغبة في الشرايين
و أعواد لدان
ها هنا كلّ صباح نلتقي
بيننا مائدة
تندي .. حنان
قدمان تحتها تعتنقان
و يدانا فوقها تشتبكان
إن تكلّمت :
ترنّمت بما همسته الشفتان الحلوتان
و إذا ما قلت :
أصغت طلعة حلوة
وابتسمت غمّازتان !
أكتب الشعر لنجواك
( و إن كان شعرا ببغائيّ البيان )
كان جمهوري عيناك ! إذا قلته : صفّقتا تبتسمان
و لكن ينصحنا الأهل
فلا نصحهم عزّ
و لا الموعد هان
لم نكن نخشى إذا ما نلتقي
غير ألاّ نلتقي في كلّ آن
ليس ينهانى تأنيب أبي
ليس تنهاك عصا من خيزران !!
الجنون البكر ولّى
و انتهت سنة من عمرنا
أو .. سنتان
و كما يهدأ عنف النهر
إنّ قارب البحر
وقارا .. واتّزان
هدأ العاصف في أعماقنا
حين أفرغنا من الخمر الدنان
قد بلغنا قمّة القمّة
هل بعدها إلاّ ... هبوط العنفوان
افترقنا ..
( دون أن نغضب )
لا يغضب الحكمة صوت الهذيان
ما الذي جاء بنا الآن ؟
سوى لحظة الجبن من العمر الجبان
لحظة الطفل الذي في دمنا
لم يزل يحبو ..
و يبكو ..
فيعان !
لحظة فيها تناهيد الصبا
و الصبا عهد إذا عاهد : خان
أمن الحكمة أن نبقى ؟
سدى
قد خسرنا فرسينا في الرهان
***
قبلنا يا أخت في هذا المكان
كم تناجى ، و تناغى عاشقان
ذهبا
ثمّ ذهبا
و غدا ..
يتساقى الحبّ فيه آخران !
فلندعه لهما
ساقيه ..
دار فيها الماء
مادار الزمان !!

Anfas Elfajer
11/07/2012, 05:33 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/31341971229.jpg

الأرض .. و الجرح الذي لا ينفتح
______________________


الأرض ما زالت ، بأذنيها دم من قرطها المنزوع ،
قهقهة اللّصوص تسوق هودجها .. و تتركها بلا زاد ،
تشدّ أصابع العطش المميت على الرمال
تضيع صرختها بحمحمة الخيول .
الأرض ملقاة على الصحراء ... ظامئه ،
و تلقي الدلو مرّات .. و تخرجه بلا ماء !
و تزحف في لهيب القيظ ..
تسأل سمّمه المغول
و عيونها تخبو من الاعياء ، تستسقي جذور الشوك ،
تنتظر المصير المرّ .. يطحنها الذبول
***
من أنت يا حارس ؟
إنّي أنا الحجّاج ..
عصبّني بالتاج ..
تشرينها القارس !
***
الأرض تطوى في بساط " النفط " ،
تحملها السفائن نحو " قيصر " كي تكون إذا تفتّحت
اللّفائف :
رقصة .. و هديّة للنار في أرض الخطاه .
دينارها القصدير مصهور على وجناتها .
زنّارها المحلول يسأل عن زناة الترك ،
و السيّاف يجلدها ! و ماذا ؟ بعد أن فقدت بكارتها ..
و صارت حاملا في عامها الألفيّ من ألفين من عشّاقها !
لا النيل يغسل عارها القاسي .. و لا ماء الفرات !
حتّى لزوجة نهرها الدموي ،
و الأموي يقعى في طريق النبع :
" .. دون الماء رأسك يا حسين .. "
و بعدها يتملّكون ، يضاجعون أرامل الشهداء ،
و لا يتورّعون ، يؤذنّون الفجر .. لم يتطهّروا من رجسهم ،
فالحقّ مات !
***
هل ثبّت الثّقفيّ
قناعة المهزوز ؟
فقد مضى تموز ..
بوجه العربيّ !
***
أحببت فيك المجد و الشعراء
لكنّ الذي سرواله من عنكبوت الوهم :
يمشي في مدائنك المليئة بالذباب
يسقي القلوب عصارة الخدر المنمّق ،
و الطواويس التي نزعت تقاويم الحوائط ،
أوقفت ساعاتها ،
و تجشّأت بموائد السّفراء ..
تنتظر النياشين التي يسخو بها السّلطان ..
فوق أكابر الأغواث منهم !
يا سماء :
أكلّ عام : نجمة عربيّة تهوى ..
و تدخل نجمة برج البرامك ! ؟
ما تزال موعظ الخصيان باسم الجالسين على الحراب ؟
و أراك .. و " ابن سلول " بين المؤمنين بوجهه القزحيّ ..
يسري بالوقيعة فيك ،
و الأنصار واجمة ..
و كلّ قريش واجمة ..
فمن يهديك للرأي الصواب ؟ !
***
ملثّما يخطو ..
قد شوّهته النار !
هل يصلح العطار
ما أفسد النفط ؟
***
لم يبق من شيء يقال .
يا أرض :
هل يلد الرجال ؟

Anfas Elfajer
11/07/2012, 05:35 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/41341971229.jpg

لا تصالح
______


(1 )
لا تصالحْ!
..ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما..
هل ترى..؟
هي أشياء لا تشترى..:
ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،
حسُّكما - فجأةً - بالرجولةِ،
هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ،
الصمتُ - مبتسمين - لتأنيب أمكما..
وكأنكما
ما تزالان طفلين!
تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:
أنَّ سيفانِ سيفَكَ..
صوتانِ صوتَكَ
أنك إن متَّ:
للبيت ربٌّ
وللطفل أبْ
هل يصير دمي -بين عينيك- ماءً؟
أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..
تلبس -فوق دمائي- ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب؟
إنها الحربُ!
قد تثقل القلبَ..
لكن خلفك عار العرب
لا تصالحْ..
ولا تتوخَّ الهرب!
(2)
لا تصالح على الدم.. حتى بدم!
لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ
أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟
أقلب الغريب كقلب أخيك؟!
أعيناه عينا أخيك؟!
وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك
بيدٍ سيفها أثْكَلك؟
سيقولون:
جئناك كي تحقن الدم..
جئناك. كن -يا أمير- الحكم
سيقولون:
ها نحن أبناء عم.
قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك
واغرس السيفَ في جبهة الصحراء
إلى أن يجيب العدم
إنني كنت لك
فارسًا،
وأخًا،
وأبًا،
ومَلِك!
(3)
لا تصالح ..
ولو حرمتك الرقاد
صرخاتُ الندامة
وتذكَّر..
(إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة)
أن بنتَ أخيك "اليمامة"
زهرةٌ تتسربل -في سنوات الصبا-
بثياب الحداد
كنتُ، إن عدتُ:
تعدو على دَرَجِ القصر،
تمسك ساقيَّ عند نزولي..
فأرفعها -وهي ضاحكةٌ-
فوق ظهر الجواد
ها هي الآن.. صامتةٌ
حرمتها يدُ الغدر:
من كلمات أبيها،
ارتداءِ الثياب الجديدةِ
من أن يكون لها -ذات يوم- أخٌ!
من أبٍ يتبسَّم في عرسها..
وتعود إليه إذا الزوجُ أغضبها..
وإذا زارها.. يتسابق أحفادُه نحو أحضانه،
لينالوا الهدايا..
ويلهوا بلحيته (وهو مستسلمٌ)
ويشدُّوا العمامة..
لا تصالح!
فما ذنب تلك اليمامة
لترى العشَّ محترقًا.. فجأةً،
وهي تجلس فوق الرماد؟!
(4)
لا تصالح
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟
وكيف تصير المليكَ..
على أوجهِ البهجة المستعارة؟
كيف تنظر في يد من صافحوك..
فلا تبصر الدم..
في كل كف؟
إن سهمًا أتاني من الخلف..
سوف يجيئك من ألف خلف
فالدم -الآن- صار وسامًا وشارة
لا تصالح،
ولو توَّجوك بتاج الإمارة
إن عرشَك: سيفٌ
وسيفك: زيفٌ
إذا لم تزنْ -بذؤابته- لحظاتِ الشرف
واستطبت- الترف
(5)
لا تصالح
ولو قال من مال عند الصدامْ
".. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام.."
عندما يملأ الحق قلبك:
تندلع النار إن تتنفَّسْ
ولسانُ الخيانة يخرس
لا تصالح
ولو قيل ما قيل من كلمات السلام
كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنَّس؟
كيف تنظر في عيني امرأة..
أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟
كيف تصبح فارسها في الغرام؟
كيف ترجو غدًا.. لوليد ينام
-كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام
وهو يكبر -بين يديك- بقلب مُنكَّس؟
لا تصالح
ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام
وارْوِ قلبك بالدم..
واروِ التراب المقدَّس..
واروِ أسلافَكَ الراقدين..
إلى أن تردَّ عليك العظام!
(6)
لا تصالح
ولو ناشدتك القبيلة
باسم حزن "الجليلة"
أن تسوق الدهاءَ
وتُبدي -لمن قصدوك- القبول
سيقولون:
ها أنت تطلب ثأرًا يطول
فخذ -الآن- ما تستطيع:
قليلاً من الحق..
في هذه السنوات القليلة
إنه ليس ثأرك وحدك،
لكنه ثأر جيلٍ فجيل
وغدًا..
سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،
يوقد النار شاملةً،
يطلب الثأرَ،
يستولد الحقَّ،
من أَضْلُع المستحيل
لا تصالح
ولو قيل إن التصالح حيلة
إنه الثأرُ
تبهتُ شعلته في الضلوع..
إذا ما توالت عليها الفصول..
ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس)
فوق الجباهِ الذليلة!
(7)
لا تصالحْ، ولو حذَّرتْك النجوم
ورمى لك كهَّانُها بالنبأ..
كنت أغفر لو أنني متُّ..
ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ.
لم أكن غازيًا،
لم أكن أتسلل قرب مضاربهم
لم أمد يدًا لثمار الكروم
لم أمد يدًا لثمار الكروم
أرض بستانِهم لم أطأ
لم يصح قاتلي بي: "انتبه"!
كان يمشي معي..
ثم صافحني..
ثم سار قليلاً
ولكنه في الغصون اختبأ!
فجأةً:
ثقبتني قشعريرة بين ضلعين..
واهتزَّ قلبي -كفقاعة- وانفثأ!
وتحاملتُ، حتى احتملت على ساعديَّ
فرأيتُ: ابن عمي الزنيم
واقفًا يتشفَّى بوجه لئيم
لم يكن في يدي حربةٌ
أو سلاح قديم،
لم يكن غير غيظي الذي يتشكَّى الظمأ
(8)
لا تصالحُ..
إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة:
النجوم.. لميقاتها
والطيور.. لأصواتها
والرمال.. لذراتها
والقتيل لطفلته الناظرة
كل شيء تحطم في لحظة عابرة:
الصبا - بهجةُ الأهل - صوتُ الحصان - التعرفُ بالضيف - همهمةُ القلب حين يرى برعماً في الحديقة يذوي - الصلاةُ لكي ينزل المطر الموسميُّ - مراوغة القلب حين يرى طائر الموتِ
وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة
كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرة
والذي اغتالني: ليس ربًا..
ليقتلني بمشيئته
ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينته
ليس أمهر مني.. ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة
لا تصالحْ
فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ..
(في شرف القلب)
لا تُنتقَصْ
والذي اغتالني مَحضُ لصْ
سرق الأرض من بين عينيَّ
والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة!
(9)
لا تصالح
ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ
والرجال التي ملأتها الشروخ
هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم
وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ
لا تصالح
فليس سوى أن تريد
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد
وسواك.. المسوخ!
(10)
لا تصالحْ
لا تصالحْ

Anfas Elfajer
11/07/2012, 05:38 AM
دراسة نقدية لقصيدة ( لا تصالح )
_________________________

اكتسبت قصيدة مقتل كليب أو "لا تصالح" المكتوبة في نوفمبر "تشرين الثاني 1976م" شهرتها قبل اتفاقيات كامب ديفيد وبعدها، وعلى وجه التحديد بعد توقيع اتفاقيات فضّ الاشتباك بعد حرب العاشر من رمضان - السادس من أكتوبر 1973م - المجيدة.

لذا فإننا نرى أن الفعل "لا تصالح" تكرر عشرين مرة في المقاطع العشرة أو الوصايا العشر لهذه القصيدة.

تكرر هذا الفعل مرتين في كل وصية، عدا الوصية الخامسة التي تكرر فيها ثلاث مرات في السطر الأول، والسطر السابع والسطر السادس عشر؛ لذا فإننا نراه يجيّء مرة واحدة في الوصية السابعة في أول سطر فقط، بينما احتوت الوصية العاشرة أو الأخيرة على هذا الفعل فقط مكررا مرتين.

لا تصالح

لا تصالح

وكأن الشاعر مع نهاية القصيدة يريد أن يؤكد تأكيدًا نهائيًّا - مع إسدال الستار على وصاياه - على هذا الفعل الذي كان محور القصيدة منذ أول حروفها وحتى نهايتها.

والمتأمل لتكرار هذا الفعل المسبوق بـ "لا" الناهية سيكتشف أن الشاعر استخدمه بكل أبعاد أو طاقات فعل الأمر الموجود في لغتنا العربية، فهو يستخدمه مرة بغرض التوسُّل، ومرة بغرض الأمر الفعلي أو الحقيقي، ومرة بغرض الرجاء أو النصح، ومرة تُحِسُّ أن الشاعر مجرد طفل صغير يتوسل لأخيه الكبير أو لأبيه، أو يستعطفه كي لا يُقْدِم على هذا الأمر الجلل وهو الصلح مع العدو، ومرة تحس بأنه هو الكبير والمدرك للأمور كلها، أو هو الراوي العليم الذي لديه حاسة الرؤية المستقبلية؛ لذا فإنه يملك الأمر والنهي في قوله "لا تصالح"، ومرة تحس بأنه نِدُّ لمن يأمره وبأنه يتساوى معه في الرتبة أو في المقام؛ لذا فإنه يقدم الرأي الواثق، ومرة تحس بأنه رجل عجوز خبر العراك وخبر النفوس البشرية؛ لذا فإنه يقدم نصيحته للطرف الآخر بأن لا يصالح.

والشاعر في استخدامه في كل مرة لهذا الفعل "لا تصالح" يأتي بمبررات عدم الصلح حتى تكون مسألة الإقناع أكثر إفادة وأكثر تأثيرًا على الطرف الآخر.

-1-

في المقطع الأول أو في الوصية الأولى يأتي الشاعر بصورة منطقية يقبلها كل إنسان عاقل، هذه الصورة عبارة عن معادلة رياضية طرفها الأول يقول:

أترى حين أفقأ عينيك

ثم أثبت جوهرتين مكانهما .. ..

وطرفها الثاني يقول: هل ترى ؟؟؟؟

وهو لا يذكر لنا النتيجة المترتبة على هذه المعادلة أو إجابة هذا السؤال - ولكننا نعرفها من خلال خبرتنا بالحياة، ومن خلال تعاملنا مع البشر ومع الأحياء، ومن خلال ملاحظاتنا لما حولنا، تلك النتيجة - أو الإجابة - التي ستكون بالنفي قطعًا - لأن الجوهرة التي ستثبت مكان العين لن تعطينا الرؤية على الإطلاق رغم قيمتها المادية الكبيرة.

إنه بهذه المعادلة التي ترك لنا مهمة استخراج نتيجتها، يضع الطرف الآخر الذي يقول له "لا تصالح" أمام حالة منطقية عقلانية بحتة لعله يعي ما سوف يترتب من آثار على هذا الصلح.

وكأن الشاعر يعرف أن الطرف الآخر لن يستجيب له أو لن يعي نتيجة المعادلة أو إجابة السؤال الذي طرحه على هيئة معادلة؛ لذا فإنه يلجأ إلى وسيلة أخرى للتأثير وهي الرجوع إلى الوراء (فلاش باك) حيث الذكريات، إنه يذكر الطرف الآخر بأيام الطفولة.

ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك

حسُّكما - فجأة - بالرجولة،

هذا الحياء الذي يكبت الشوق .. حين تعانقه

الصمت .. - مبتسمين - لتأنيب أمكما ..

وكأنكما

ما تزالان طفلين !

لعل هذا الطرف يتذكر أحلى أيام العمر، أيام الطفولة والنقاء والطهارة والصدق، لعله يتذكر ويتراجع عن قراره الذي اتخذه بشأن الصلح مع العدو، وحينما يحس أيضًا أن ليست هناك استجابة من قِبَلِ هذا الطرف، يلجأ إلى استخدام طريقة أخرى للتأثير وهي طريقة ربما تكون أيضًا عقلانية، ولكنها تمس وترًا من نوع آخر وهي الاستهانة بهذا الطرف الذي يعتقد أنه وصي على الأبناء:

إنك إن مت:

للبيت رب

وللطفل أب

ثم يلجأ لوسيلة أخرى، هي استثارة النخوة العربية عن طريق توظيف الأمثلة العربية أو الشعبية في هذا التساؤل الاستنكاري أيضًا:

أتنسى ردائي الملطخ .. ..

تلبس - فوق دمائي - ثيابًا مطرزة بالقصب ؟؟

ثم ينهي الشاعر هذه الوصية الأولى بسطور أشبه ما تكون بالتحذير لهذا الطرف أو لهذا "الآخر" الذي لا يريد أن ينصت إليه رغم كل التوسلات، ورغم كل الأساليب التي لجأ إليها في السطور السابقة بهدف التأثير:

إنها الحرب !

قد تثقل القلبَ .. ..

لكن خلفك عار العرب

لا تصالح .. ..

ولا تتوخَّ الهرب !

ويتضح منذ البداية أن الشاعر يستخدم تفعيلة بحر المتدارك "فاعلن" الخماسية، وأحيانًا يستخدم مخبونها فَعِلُن (بتحريك العين) وهي التفعيلة التي أكثر الشاعر من استخدامها في مراحله الشعرية الأخيرة، وديوانه أوراق الغرفة (8) خير شاهد على ذلك.

ويلاحظ على المقطع الأول - أو الوصية الأولى - أن الشاعر تحلل في كثير من الأحيان من التقفية، ومن المعروف أن أمل دنقل من أكثر الشعراء المعاصرين (المحدثين) لعبًا بالقافية التي كثيرًا ما يجيد استخدامها في الشعر التفعيلي، إلا أنه بقليل من التدقيق سنجد أنه في السطور الأخيرة يستخدم قافية الباء الساكنة مع فتح الحرفين السابقين لها (القصب -* العرب - الهرب)، وقد كانت هناك إرهاصة لهذه القافية في السطر الثاني من القصيدة في كلمة الذهب في قوله (ولو منحوك الذهب)، ويطلق على هذا النوع من القافية اسم (المتدارك)، أيضًا يلاحظ أن هذه القافية تكررت في السطر الثامن عشر في قول الشاعر (وللطفل أب)، مما يدل على أن الشاعر حاول أن يقيم هذا البناء الموسيقي الخارجي في بعض سطور هذه الوصية ونجح في ذلك خمس مرات، بالإضافة إلى تنويعه الداخلي لهذا النوع من الموسيقى مثل (هل ترى - لا تشترى) و(كأنكما - بينكما)، وربما هذه الموسيقى تستخدم كنوع من التأثير على الطرف الآخر، بالإضافة إلى الوسائل الأخرى التي ذكرناها من قبل.

-2-

أما المقطع الثاني أو الوصية الثانية فقد وقعت في عشرين سطرًا استخدم فيها الشاعر الفعل "لا تصالح"، كما ذكرنا من قبل مرتين في السطرين الأول والثاني فقط:

لا تصالح على الدم.. حتى بدم !

لا تصالح ولو قيل رأس برأس،

وهنا يلجأ الشاعر إلى صيغة السؤال، تلك الصيغة التي استخدمها أربع مرات تمثلت في السطور:

أقلب الغريب كقلب أخيك ؟؟؟

أعيناه عينا أخيك ؟؟!

وهل تتساوى يد.. سيفها كان لك

بِيَدٍ سيفها أَثْكَلك ؟؟؟

وصيغة السؤال هنا - أيضا - تفيد الاستنكار، خاصة أن ثلاثة أسئلة من الأسئلة الأربعة بدأت بالهمزة.

إن السؤال هنا يحمل في طياته إجابته، ويحس بأن مثل هذه الأسئلة السابقة تلقي بظلال من التوبيخ فضلاً عن الاستنكار.

وإذا كان الشاعر في وصيته الأولى استخدم ذكريات الطفولة - عن طريق التركيز على الماضي كنوع من أنواع التأثير - فإنه في وصيته الثانية يستخدم الصيغة المستقبلية عن طريق تكرار "سيقولون" مرتين.

سيقولون:

جئناك كي تحقن الدم

جئناكْ .. كن - يا أمير - الحكم

سيقولون:

ها نحن أبناء عم

وهذا نوع جديد من التأثير، أي إنه يقول للآخر: إنه أعلم منه بالعدو وبخباياه النفسية وبطواياه وبطرائقه في التعامل وبمنطقه في الإقناع، فلا يغرنك هذا كله، لأنه ما هو إلا أساليب وحيل مكشوفة ومعروفة ومفهومة.

وهنا يبرز فعلاً أمران جديدان غير "لا تصالح" وهما: قل لهم - اغرس، في قوله:

قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك

واغرس السيف في جبهة الصحراء ..

إلى أن يجيب العدم

وبقدر ما تفيد أفعال الأمر في النصح والإرشاد، بقدر ما تدلنا على أن الشاعر كان أكثر حكمة وأكثر إدراكًا وأكثر فهمًا لما يجري من حولنا ويتعلق بمصيرنا، إنه يقدم نصحه وإرشاده للآخر الذي يوجه إليه الأمر منذ مطلع القصيدة، والذي يوجه إليه الفعل المسبوق ب "لا تصالح" خلال القصيدة ككل.

ونلاحظ في هذه الوصية الثانية أن الشاعر يعزف على نوعين من القافية، الأولى رويها الميم الساكنة في (بدم - الحكم - عم - العدم) والثانية رويها الكاف الساكنة في (كان لك - أثكلك - فيمن هلك - كنت لك - وملك) مع ملاحظة أن الكاف الساكنة تغلبت - في العدد - على الميم الساكنة.

ومن الصور الشعرية البارزة جدًا في هذا المقطع قول الشاعر:

واغرس السيفَ في جبهة الصحراء

إلى أن يجيب العدم

وهي من الصور الشعرية التي من الممكن أن يقال عنها إنها "مستحيلة" لأن العدم من المستحيل أن يجيب، ومن هنا يظل السيف مغروسًا في جبهة الصحراء استعدادًا للنزال والحرب التي ستظل إلى أن يجيب العدم.

وأعتقد أن سر بروز هذه الصورة في هذا المقطع، أنه جاء مفرغًا من أية صورة شعرية عدا هذه الصورة الجميلة المستحيلة.

-3-

أما الوصية الثالثة فقد وقعت في تسعة وعشرين سطرًا رجع الشاعر خلالها مرتين إلى استدعاء صور وذكريات للطفولة عله يستطيع التأثير بهذه الطريقة على الآخر وذلك في قوله:

وتذكرْ .. .. .. .. ..

(إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن

الذين تخاصمهم الابتسامة)

أن بنت أخيك "اليمامة"

زهرة تتسربل - في سنوات الصبا -

بثياب الحداد

كنت، إن عدتُ:

تعدو على درج القصر،

تمسك ساقيَّ عند نزولي .. ..

فأرفعها - وهي ضاحكة - ..

فوق ظهر الجواد

ها هي الآن صامتة

حرمتها يد الغدر:

من كلمات أبيها،

ارتداء الثياب الجديدة

من أن يكون لها - ذات يوم - أخ

من أب يتبسَّم في عرسها

وتعود إليه إذا الزوج أغضبها

وإذا زارها .. يتسابق أحفاده نحو أحضانه،

لينالوا الهدايا .. ..

ويلهوا بلحيته (وهو مستسلم)

ويشدُّوا العمامة

إلا أننا نقول: إن الشاعر استخدم أسلوب النصح في مطلع هذه الوصية في قوله:

لا تصالح .. .. ..

ولو حرمتك الرقاد

صرخات الندامة

ولأول مرة يستخدم الشاعر فعل الأمر (تذكر) صراحة في القصيدة والمعطوف على الفعل لا تصالح.. وهنا نلاحظ أن الشاعر يستخدم (إذا) التي تفيد عدم التأكد من وقوع هذا الأمر، وأنه ما زال في شك من أمر الآخر.

يلاحظ في هذا المقطع أن الشاعر يعتمد في موسيقاه على نوعين من القافية مثلما لاحظنا في المقطع السابق، النوع الأول رويه الدال الساكنة في قوله: (الرقاد - السواد - الحداد - الجواد - الرماد)، أما النوع الثاني الميم المفتوحة فالهاء الساكنة في قوله: (الندامة - ابتسامة - اليمامة - العمامة - اليمامة "مرة أخرى").

ويلاحظ أن عدد كل من القافيتين جاء متساويًا في هذه الوصية.

-4-

وفي الوصية الرابعة يعود الشاعر مرة أخرى لاستخدام صيغة السؤال ثلاث مرات، في هذا المقطع الذي وقع في سبعة عشر سطرًا، حيث يقول الشاعر:

كيف تخطو على جثة ابن أبيك ؟

وكيف تصير المليك .. .. ..

على أوجه البهجة المستعارة ؟

كيف تنظر في يد من صافحوك .. ..

فلا تبصر الدم .. .. ..

في كل كف .. .. ؟

إن هذه الأسئلة تفيد الاستنكار وتؤكد على استحالة أن يحدث مثل هذا، وبمثل هذه الكيفية، التي جاء ذكرها في الأسئلة؛ لذا نرى الشاعر يبدأ أسئلته الثلاثة بـ "كيف".

في هذه الوصية يلاحظ كثرة استخدام القافية، وكثرة تنوعها:

1- (الأمارة - المستعارة - شارة - الأمارة "مرة أخرى").

2- (أبيك - المليك - صافحوك).

3- (كل كف - من الخلف - ألف خلف).

4- (سيف - زيف).

5- (الشرف - الترف).

وكما لوحظ فإن النوع الأول من القافية كان أكثر انتشارًا وأكثر توزيعًا بين سطور هذه الوصية، حيث انتشرت هذه القافية في أواخر السطور (الثاني - الخامس - الحادي عشر - الثالث عشر).

-5-

في الوصية الخامسة - كما سبق أن أوضحنا - يستخدم الشاعر "لا تصالح" ثلاث مرات في السطر الأول - السطر السابع - السطر السادس عشر، في حين أن هذه الوصية تكونت من واحد وعشرين سطرًا.

وهو يستخدم الصيغة (ولو قال - ولو قيل) مرتين في هذا المقطع في قوله:

لا تصالح

ولو قال من مال عند الصدام

".. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام .."

لا تصالح

ولو قيل ما قيل من كلمات السلام

إن الغائب يصبح حاضرًا في هذا الجزء من الوصية؛ لأننا سنعرف - أو أننا نعرف بالفعل - من هو الذي يمكن أن يقول ما بنا طاقة لامتشاق الحسام، ومن الذي يداعبنا بكلمات عن السلام أو بكلمات من السلام.

إن القافية في هذا الجزء تتراوح بين الميم الساكنة المسبوقة بألف المد والسين الساكنة، وذلك في قوله (الصدام - الحسام - السلام - الغرام - ينام - الطعام - الفطام) و (تتنفس - بخرس - المدنس - منكس - المقدس).

كما يلاحظ أن الشاعر يعود إلى استخدام صيغة التساؤل في هذه الوصية بالإضافة إلى صيغة الأمر، فعلى حين تجد أن الشاعر يستخدم التساؤل خمس مرات في قوله:

1- كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنس ؟

2- كيف تنظر في عيني امرأة أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها ؟

3- كيف تصبح فارسها في الغرام ؟

4- كيف ترجو غدًا .. لوليد ينام ؟

5- كيف تحلم أو تتغنى بمستقبل لغلام وهو يكبر بين يديك - بقلب منكس ؟

نجد أنه يستخدم النهي في: لا تقتسم، والأمر في: ارو (تكررت ثلاث مرات) خلافًا للنهي في: لا تصالح الذي تكرر ثلاث مرات أيضًا، أي أن الشاعر استخدم صيغة الأمر سبع مرات في هذه الوصية.

وربما يكون هذا الجزء هو أكثر الأجزاء استخدامًا لصيغة التساؤل وفعل الأمر معًا، إن التساؤلات السابقة التي تفيد الاستنكار والتعجب تفيد أيضًا معرفة الشاعر لخصوصية الشخصية التي يخاطبها، بل معرفة الخصائص النفسية، وهنا يلاحظ على هذه التساؤلات:

إن الشاعر يستخدم الصيغة التي تبدأ بـ "كيف" التي ربما تفيد التعجب، ولكن طرحها خمس مرات على هذا النحو يدل على أن الشاعر يريد الوصول إلى الكيفية التي يفكر بها هذا الآخر الذي يخاطبه أو يوجه إليه التساؤلات، إنه يريد أن يتخطى الطريقة التي يفكر بها الآخر نظريًّا إلى الطريقة العملية، عن طريق تكرار هذه الصيغة التي بدأت بـ "كيف"، وربما أنه يستنكر على هذا الآخر أن يفعل مثل هذه الأفعال، فإنه بطريقة غير مباشرة يقول لنا إنه عرف أو يعرف خصائص شخصيته، بل إنه في التساؤل:

كيف تنظر في عين امرأة

أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها ؟

يضع الآخر في مواجهة مع النفس، وتكون المواجهة عنيفة جدًا أو أعنف ما يكون؛ لأنه يطعنه في رجولته، ويطعنه فيما يتعارف عليه الرجل الشرقي من حمايته للضعيف، خاصة إذا كان هذا التساؤل على هذا النحو، إنه يأتي كصفعة قوية لعلَّ الآخر يفيق من غفوته ويعمل بنصيحة الشاعر في قوله "لا تصالح" التي هي سر كتابة هذه الوصايا، أيضًا يأتي التساؤل الثاني:

كيف تصبح فارسها في الغرام ؟؟؟

مؤكدًا على هذا المعنى.

وإذا كان الشاعر قد لجأ إلى ما أسميناه بالصورة الشعرية المستحيلة في قوله:

واغرس السيف في جبهة الصحراء

إلى أن يجيب العدم

وذلك في الوصية الثانية، فإنه يلجأ مرة أخرى إلى مثل هذه الصورة الشعرية المستحيلة في هذه الوصية الخامسة في قوله - في نهايتها:

واروِ قلبك بالدم .. ..

واروِ التراب المقدس .. ..

واروِ أسلافك الراقدين .. ..

إلى أن ترد عليك العظام !

وتكمن الاستحالة في هذه الصورة في السطر الأخير "إلى أن ترد عليك العظام"، وكما قلنا إنه من المستحيل أن يجيب العدم في الوصية الثانية، فإننا نؤكد أيضًا على استحالة أن ترد العظام، ومن هنا يظل الآخر عاكفًا على إرواء قلبه بالدم وعاكفًا على إرواء التراب المقدس من هذا الدم، وعاكفًا على إرواء الأسلاف الراقدين إلى أن ترد عليه العظام، أي إلى أن تحدث معجزة وترد العظام أو إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

-6-

الوصية السادسة تتكون من خمسة وعشرين سطرًا، وهنا نلاحظ أن الشاعر يلجأ إلى الحكمة في قوله:

إنه الثأر

تبهت شعلته في الضلوع .. ..

إذا ما توالت عليه الفصول

وتأتي الحكمة من نفس بيئة القصيدة، ومن نفس البناء المعماري والبناء النفسي الذي اعتمدت عليه القصيدة كلها.

ويلاحظ أيضًا أن صيغ التساؤل التي تكررت في الوصايا السابقة تنعدم في هذه الوصية، وأن فعل الأمر الذي تعودنا على أن نراه في الوصايا السابقة ينخفض عدده ليصبح فعلاً واحدًا هو "خذ" في قوله:

فخذ - الآن - ما تستطيع

هذا خلافًا للفعل "لا تصالح" الذي تكرر مرتين في السطر الأول، والسطر التاسع عشر، ويلاحظ على هذا الجزء السادس أن الشاعر يلجأ إلى نوعين من القافية تراوحت بين اللام فالهاء الساكنة في قوله: (القبيلة - الجليلة - القليلة - حيلة - الذليلة)، وقافية الواو أو الياء فاللام الساكنة في قوله: (القبول - يطول - جيل - المستحيل - الفصول).

-7-

أما في الوصية السابعة فإن الشاعر يستخدم الفعل "لا تصالح" مرة واحدة فقط في السطر الأول من الوصية، وهنا يلجأ الشاعر مرة أخرى إلى أسلوب النصيحة في قوله:

لا تصالح، ولو حذَّرتك النجوم

ويلاحظ استخدامه لصورة من حياة الأقدمين في قراءاتهم للنجوم واستشارتهم للكهان، وهذه الوصية تتكون من 23 سطرًا، كما يلاحظ أيضًا على هذه الوصية أن عنصر الحكي أو القص واضح فيها، بالرغم من أنها بدأت بالفعل "لا تصالح":

لم يصح قاتلي انتبه

كان يمشي معي

ثم صافحني

ثم سار قليلاً

ولكنه في الغصون اختبأ

فجأة

ثقبتني قشعريرة بين ضلعين ..

واهتز قلبي كفقاعة - وانْفَثَأ !

وتحاملت حتى احتملت على ساعدي

فرأيت: ابن عمي الزنيم

واقفًا يتشفى بوجهٍ لئيم

لم يكن في يدي حربة

أو سلاح قديم

لم يكن غير غيظي الذي يشتكي الظمأ !

ويلاحظ في هذه الوصية أن الفعل الماضي نسبته قد ارتفعت كثيرًا؛ لأن هذا الفعل يتناسب مع عملية الحكي أو القص أو السرد، ومن هذه الأفعال الماضية التي لاحظنا وجودها (حذرتك – رمى – صافحني – سار –* اختبأ – ثقبتني – اهتز – انفثأ – تحاملت – احتملت – رأيت)، هذا بالإضافة إلى الصيغ أو التعبيرات المركبة التي تدل على الزمن الماضي مثل: (لم أمد – لم يصح – كان يمشي - لم أكن).

أما عن القافية فقد تراوحت بين استخدام الهمزة الساكنة مع فتح ما قبلها والتي تكررت ست مرات (النبأ - الخطأ - لم أطأ - اختبأ - انفثأ - الظمأ) واستخدام الياء أو الواو فالميم الساكنة، والتي تكررت أيضًا ست مرات في قوله: (النجوم - التخوم - الكروم - الزنيم - لئيم - قديم).

-8-

الوصية الثامنة تتكون من 23 سطرًا، أيضًا استخدم الشاعر فيها الفعل "لا تصالح" مرتين كعادته، كما أتى بكلمة "الصلح" مرة واحدة منفردة في قوله:

فما الصلح إلا معاهدة بين ندين

وهو في هذه الوصية ينصح الآخر بأن لا يصالح حتى تستقيم الأشياء وتستقر ويعود كل شيء إلى موضعه الطبيعي، ذلك أن كل شيء تحطم في لحظة عابرة، كل شيء تحطم في نزوة فاجرة:

لا تصالح

إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة

النجوم .. .. .. .. . لميقاتها

والطيور .. .. .. .. لأصواتها

والرمال .. .. .. .. لذراتها

والقتيل لطفلته الناظرة

كل شيء تحطم في لحظة عابرة

إن الأشياء التي تحطمت في لحظة عابرة وفي نزوة فاجرة هي:

1- الصبا

2- بهجة الأهل

3- صوت الحصان

4- التعرف بالضيف

5- همهمة القلب حين يرى برعمًا في الحديقة يذوي

6- الصلاة لكي ينزل المطر الموسمي

7- مراوغة القلب حين يرى طائر الموت وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة.

إنه عالم من الطفولة والبهجة والأصالة والكرم والحب والنقاء والطهر قد افتقدناه، فكيف تأتي عملية المصالحة وكل هذه الأشياء غائبة عنا؟ إن الموجود حاليًا في عالمنا هو نقيض هذه الأشياء، الموجود هو (الشيخوخة - الحزن - الخديعة والمكر والقشور - الشح والتقتير - الكراهية والنجاسة - والبغضاء والشَّحناء ..).

كيف تأتي مسألة الصلح والطرف الآخر (العدو) الذي سأتصالح معه ليس أنبل وليس أمهر مني، بل إنه محض لص، كيف يسرقني ويسلبني وأذهب إليه وأتفاوض معه من أجل الصلح؟

لا تصالح

فما الصلح إلا معاهدة بين ندين ..

(في شرف القلب)

لا تنتقص

والذي اغتالني محض لص

سرق الأرض من بين عيني

والصمت يطلق ضحكته الساخرة !

أما عن استعمال الشاعر للقافية فقد تكررت الراء فالهاء الساكنة سبع مرات في قوله: (الدائرة - الناظرة - عابرة - الكاسرة - الماكرة - فاجرة - الساخرة)، مع إدخال بعض القوافي الأخرى لكسر رتابة هذه القافية مثل التاء فالهاء الممدودة (ميقاتها - أصواتها - ذراتها)، والتاء فالهاء المكسورة (بمشيئتهِ - بسكينتهِ)، والصاد الساكنة (لا تنتقص - محض لص).

-9-

تتكون الوصية التاسعة من 11 سطرًا استخدم الشاعر فيها الفعل "لا تصالح" مرتين في السطر الأول والسطر الثامن، وهنا يستخدم هذا الفعل بغرض التحذير:

لا تصالح

ولو وقفت ضد سيفك كلُّ الشيوخ

والرجال التي ملأتها الشروخ

إنه يحذره من أبناء قبيلته فربما يجد هذا التصالح هوى في نفوسهم؛ لذا فإن الشاعر يكشف له الحقيقة في هذه الوصية لأن مثل هؤلاء ما هم إلا رجال ملأتهم الشروخ:

هؤلاء الذين يحبون طعم الثريد

وامتطاء العبيد

هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم

وسيوفهم العربية قد نسيت سنوات الشموخ

إن الشاعر يلجأ إلى أسلوب جديد في هذه الوصية يعزف عليه، وهو أسلوب الترغيب والمدح، فربما يستطيع بواسطة هذا الطريق التأثير على الآخر، إنه يقول له:

لا تصالح

أنت فارس هذا الزمان الوحيد

وسواك .. .. .. المسوخ

إنها المرة الأولى التي يستخدم فيها الشاعر هذا الأسلوب في الإقناع والتأثير وربما يكون قد لجأ إليه لإحساسه بأنه استنفد كل وسائله من النصح والإرشاد والأمر والاستعطاف والرجاء والتوسل … إلخ؛ لذا فإنه يلجأ أخيرًا إلى أسلوب المدح فربما يستطيع الوصول إلى منطقة نفسية لم يطرقها من قبل عن طريق المدح والثناء على غرار ما كان يفعل شعراؤنا الأقدمون.

ويلاحظ على هذا المقطع أن الشاعر استخدم قافية الواو فالخاء الساكنة في قوله: (الشيوخ - الشروخ - الشموخ - المسوخ)، وأيضًا استخدم قافية الياء فالدال الساكنة في قوله: (الثريد - العبيد - أن تريد - الوحيد).

-10-

أما في الوصية الأخيرة فإن الشاعر مع إسدال الستار على كل وصاياه لا يملك إلا أن يكرر الفعل "لا تصالح" مرتين:

لا تصالح

لا تصالح

ليؤكد على أهمية هذا الفعل المحوري الذي جاءت من أجله كل القصيدة، إنه لا يملك إلا ترديد لا تصالح مرتين بكل ما في هذا الفعل من طاقة وتأثير وإيحاء ومقدرة على الفعل سبق للشاعر أن نثرها في كل الوصايا السابقة؛ لذا فإنه لا يستطيع أن يقول في النهاية شيئًا أكثر من:

لا تصالح

لا تصالح




*****

* الوثبة الفنية في قصيدة "لا تصالح":

يقول د. مصطفى سويف في مقال له بعنوان "النقد الأدبي ماذا يمكن أن يفيد في العلوم النفسية الحديثة" - (مجلة فصول - المجلد الرابع - العدد الأول - أكتوبر/ نوفمبر/ ديسمبر 1983م): "لقد كشفت النتائج التي أمكن الوصول إليها من دراسة العمليات النفسية في إبداع الشعر عن أن الوحدة الأولية للقصيدة هي "الوثبة"، وهذا بناء مغاير للوحدة الفنية المعتادة التي هي البيت، والوثبة مجموعة من الأبيات تليها دفقة واحدة من دفقات النشاط الفكري الإنتاجي، وبالتالي فإن التفكير الإبداعي في الشعر يتقدم في خطوات تتخذ شكل وثبات، أي أن فكر الشاعر لا يتقدم من بيت إلى بيت ولكن من وثبة إلى وثبة، وليس للوثبة طول ثابت، فقد تكون ثلاثة أبيات وقد تكون سبعة أو أكثر أو أقل ....".

ونحن إذا قمنا بتطبيق هذا المفهوم النقدي النظري على القصيدة التي نحن بصدد دراستها فسنجد أن هذه القصيدة تحتوي على عدد هائل من "الوثبات"، وعلى سبيل المثال سنجد أن الوصية الأولى التي تكونت من 26 سطرًا قد احتوت على تسع وثبات يمكننا طرحها على النحو التالي بغرض تقريب هذا المفهوم النقدي من الأذهان:

1- لا تصالح !

ولو منحوك الذهب

2ـ أترى حين أفقأ عينيك،

ثم أثبت جوهرتين مكانهما ..

هل ترى .. .. ؟

3ـ هي أشياء لا تشترى

4ـ ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،

حسكما - فجأة - بالرجولة،

هذا الحياء الذي يكبت الشوقَ ,, حين تعانقه،

الصمت - مبتسمين - لتأنيب أمكما ..

وكأنكما

ما تزالان طفلين !

تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:

أن سيفان سيفك ..

صوتان صوتك

5ـ أنك إن مت:

للبيت رب

وللطفل أب

6- هل يصير دمي - بين عينيك - ماء ؟؟؟

7- أتنسى ردائي الملطخ .. ..

تلبس - فوق - دمائي - ثيابًا مطرزة بالقصب ؟؟؟

8- إنها الحرب !

قد تثقل القلب .. ..

لكن خلفك عار العرب

9- لا تصالح .. .. ..

ولا تتوخَّ الهرب !

وبهذا المفهوم التطبيقي سيتضح أن كل وصية تحتوي على عدد من الوثبات، وقد رأينا بالفعل أنه ليس للوثبة طول ثابت فقد تكون سطرًا أو أكثر.

وما من شك في أن هذا المفهوم النقدي الجديد نحن في حاجة إليه، وفي حاجة إلى مفاهيم نقدية مماثلة تمكننا من الاقتراب أكثر من مفاهيم وجماليات الشعر العربي المعاصر، وهذا لن يتأتَّى إلا بمعانقة المفهوم النظري للمفهوم التطبيقي للشعر بعامة.


كتابة : أحمد فضل شبلول / المصدر : منتدى نورماندي (http://go.3roos.com/s23732hsr9f)

Anfas Elfajer
11/07/2012, 05:41 AM
http://www.3roos.com/files/ups/2012/205182/51341971229.jpg


الفارس
_____

لا تنتظري أن يبتسم العابس
فالفارس ليس الفارس
مدي بإنائكِ
عبر السلك الشائكِ
مدي طرف ردائكِ
حتى يصنع منه للقلب ضمادا
ويسد شقوق البرد القارس
تتوالى كل فصول العام على القلب الباكي
لم يستر روحه عبر الأشواك سوى رؤياكِ
فعيناكِ الفردوسان: هما الفصل الخامس
عيناكِ هما
آخرنهر ٍ يسقيه
آخر بيت يأويه
آخر زاد في التيه
آخر عراف يستفتيه
فأريحيه
أريحيه على الحجر البارد
ليرتاح قليلا
فلقد سار طويلا
وقفي كملاك الحب الحارس
حتى لا يفجئه الموت
قفي كملاك الحب الحارس

Anfas Elfajer
12/07/2012, 08:05 PM
كتب / جابر عصفور

لم تنس الصلة بالجماهير قصيدة أمل دنقل ما عليها من حق للشعر في تقنيات شعريته. أن الصنعة تتجاور مع العفوية، والأصالة تقترن بالمعاصرة، والحرص على النغمة الإيقاعية يتناغم مع الحرص على التجديد، وعين الشاعر التي لا تمل من النظر إلى عالم المدينة تتضافر مع إذنه التي لا تمل من الاستماع إلى النغمات والأصوات في هذا العالم.
ولذلك فإننا نستطيع أن نلمح في شعر أمل دنقل تجاورا لافتا بين الحداثة والتقاليد، خصوصية الرؤية الشعرية الفردية وجماعية الوجدان الجماهيري، الاستغراق في التقنية والعفوية التي تخفي هذه التقنية.
ومن المؤكد أن شعر أمل دنقل لا يدخل في باب المناسبات بالمعنى الذي تنتهي به القصيدة بانتهاء المناسبة أن غوص هذا الشعر في تجاربه، وتجسيده اللحظات الجوهرية في الواقع، وصياغته الأقنعة النموذجية التي تتحول إلى موازيات رمزية، وخلقه شخصيات إبداعية لا يمكن نسيانها، على نحو ما نجد في (يوميات كهل صغير السن)و( سفر ألف دال) وقدرة هذا الشعر على صياغة جداريات بالغة الحيوية لمشاهد المدينة ومفردات عالمها، وأناسها الهامشيين، ولغة هذا الشعر المنسوجة باقتدار، والأحكام البنائي الذي يخلف لذة عقلية في ذهن المتلقي، كلها خصائص تتجاوز المناسبة أو المناسبات، وتضع أمل دنقل في مصاف الشعراء الكبار الذين يتجاوز شعرهم اللحظة التاريخية التي أوجدته لأنه عثر على العناصر الباقية في هذه اللحظة.
وأضيف إلى ذلك عذوبة التعبير عن المشاعر الفردية ورهافتها.وذلك بعد يستحق الإشارة إليه في شعر أمل دنقل على الأقل لأنه بعد يختفي هونا نتيجة غلبة الشعر السياسي والقضايا القومية على شعر أمل دنقل والواقع أن الوجه القومي العام مسئول عن تهميش الوجه الخاص من شعر أمل دنقل. ولذلك لمن أستغرب عندما سألني الشاعر عبد المنعم رمضان ذات مرة، بوصفي صديق أمل دنقل، قائلا : هل توجد في شعر أمل دنقل صور امرأة أحبها؟ وكان السؤال يعني : أين الجانب الخاص من شعر أمل دنقل الفرد؟ وتحدثت طويلا عن الجوانب الخاصة الفردية من شعر أمل دنقل، سواء في قصائد العامة التي يتسلل إليها الخاص وسط العام، أو قصائده التي هي أقرب إلى السيرة الذاتية، وعلى رأسها قصيدة (يوميات كهل صغير السن) التي هي نوع من الموازاة لقصيدة الشاعر تي. اس. اليوت (أغنية العاشق الفريد بروفروك). ولكن قصيدة أمل كانت أكثر تعبيرا عن همومه الفردية في مصريتها الخالصة من ناحية، وفي انتمائه إلى الشريحة الصغرى من البرجوازية الصغيرة من ناحية مقابلة.
ولم يقتصر الأمر على ذلك عند دنقل، فقد كان صوته الخاص يتخذ نبرة تدل عليه من وراء أقنعة الشعراء الذين أختارهم لقربهم من نفسه، وأخص بذلك قناع المتنبي وقناع أبي نواس، وكان الصوت الخاص للشاعر المعاصر المتخفي وراء قناع للشاعر قديم يسعى إلى التعبير المباشر عن نفسه، وهو الأمر الذي حدث في سفر (ألف. دال) وهما الرمزان الدالان على أمل دنقل نفسه، في موازاة الانحدار العام لوطنه. والطريف أن قراء هذه القصيدة لفتهم الجانب العام، ولم ينتبهوا إلى أنها سيرة ذاتية تستبطن مشاعر فرد يرى من خلال مأساته الشخصية مأساة وطنه. والعكس صحيح بالقدر نفسه.
ولكن الجانب الخاص لا يختلط بالعام على هذا النحو، في كل الأحوال، فهناك أحوال التوحد الذاتي وأحوال الحب على السواء، في الأحوال الأولى، كان أمل يستدعى من الذاكرة مخزونها الوجداني الحميم، حيث تغدو الشهور زهورا تنمو على حافة القلب : زهرة في إناء تتوهج في أول الحب بين محبوبين، وزهرة من غناء تتورد فوق كمنجات صوت المحبوبة حين تفاجئها القبلة الدافئة، وزهرة من بكاء تتجمد فوق شجيرة العينين في لحظات الشجار الأخيرة وقد تنقلب الشهور الزهور إلى أصوات، منها صوت الكمان الذي أحبه أمل دنقل كثيرا ومنحه مكانة خاصة في وجدانه، مكانة دفعته إلى أن يقول :
لماذا يتبعني أينما سرت صوتُ الكمان ؟ أسافر في القاطرات العتيقة ـــ
أرفع صوتي ليطغى على ضجَة العجلات وأغفو على نبضات القطار الحديدية القلب
لكنها بغتة. تتباعد شيئا فشيئا ويصحو نداء الكمان .

أما في الأحوال الثانية فكان شعر أمل يقترن دائما بتوهج لحظات الحب القليلة التي مر بها، والتي جعلته يدرك أهمية المرأة في حياته، ويخلص لها ويغفر لها زلاتها، ما ظل مقتنعا بطيب عنصرها، ومؤمنا بالامكانات الخلاقة التي تنطوي عليها. ولذلك كانت المرأة التي أحبها - بعيدا عن تحولاتها الرامزة إلى مجالات غير ذاتية - هي الحضور الدائم الذي يمنح الحياة بهجتها، رغم كل عذاب
الحياة، وكل إخفاقات الحب في الوقت نفسه :
دائما أنت في المنتصف أنت بيني وبين كتابي
وبيني وبين فراشي وبيني وبين هدوئي
وبيني وبين الكلام ذكريات سجني، وصوتك يجلدني ودمي قطرة ـ بين عينيك ـ ليست تجف فامنحيني السلام فامنحيني السلام نضيف إلى الخصائص السابقة ما تميز به شعر أمل دنقل من تراكيب حدية، وعوالم تجمع بين المتقابلات في صياغات لافتة. وذلك هو السبب في أن المفارقة والتضاد خاصيتان أثيرتان في هذا الشعر. أقصد إلى التضاد الذي يضع الأشياء في علاقات متدابرة : تدابر الأنا.
والآخر تنافر الشرق والغرب، الحاضر والماضي تناقض السلطة والمحكومين، التمرد والخنوع، الشرف والخيانة وكلها متقابلات تؤسس لنزعة حدية لم تفارق شعر أمل دنقل، ونطقتها قصائد المؤسسة على التضاد الرأسي أو الأفقي من مثل قصيدة ( الخيول ) التي تجسد التقابل بين الماضي العربي المجيد والحاضر العربي المهين، كما نطقتها قصائده المبنية على التضاد المكاني، وذلك من مثل قصيدة ( إسكندرية ) التي تجسد التقابل بين الجنوب والشمال الأنا والآخر العرب وأوروبا.
أما المفارقة فإنها - مثل التضاد - تستقطر السخرية من التقابلات المفاجئة، خصوصا حين تتجاور الأشياء، بغتة ويبرز التقابل بين العناصر على نحو ساخر، موجع، نقرأ معه سخريته الشهرية من رمز السلطة، وذلك في قصيدته عن مذكرات المتنبي في مصر، حيث يتحول الحاكم إلى صورة أخرى من كافور الإخشيدي الذي سخر منه المتنبي قديما ويتحول الشاعر المعاصر إلى صورة أخرى من المتنبي القديم خصوصا في دائرة السخرية التي لا يكف فيها عن الاستهزاء بالحاكم الذي لا يعرف واجباته، ولا يؤدي دوره. وتصل الذروة إلى الحوار بين المتنبي وجاريته على النحو التالي :
تسألني جاريتي أن أكتري للبيت حراّسا فقد طغى اللصوصُ في مصر. بلا رادعْ
فقلتُ : هذا سيفيَ القاطع ، ضعيه خلف الباب متراسا ! ما حاجتي للسيف مشهورا
مادمت قد جاورت كافورا ؟ ودلالة الحوار الساخر أبرز من أن نلفت الانتباه إليها وهي تمثيل لأشكال أخرى من الحوار، أبرزها الحوار الذي يدور بين النيل العجوز والحاكم المستبد، وذلك في قصيدة يتكئ فيها أمل اتكاءة كبيرة على محمد الماغوط الشاعر السوري الكبير. وإذا تركنا سخرية الحوارات ومفارقاتها، فإننا نلحظ بقاء السخرية ممتدا في شعر أمل، وذلك على نحو لم يخل منه ديوانه كما نجد في ديوان "العهد الآتي " على سبيل المثال. وهو الديوان الذي نقرأ فيه ما يلي: لا تسألي النيل أن يعطي وأن يلدا لا تسألي.. أبدا أني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا لقد كان شعر أمل، بهذه اللغة التي تؤكد السخرية من خلال المفارقة، والمفارقة التي تعمل في موازاة التقابل الحدًي، يجسًد بموازيات رمزية أنواع التضاد الذي تنبني عليه علاقات واقع مختل، لم يتردد الشاعر في الكشف عن اختلاله، ولا في تعرية علاقات فساده، مؤمنا كل الإيمان بأن دوره بوصفه شاعرا لا يمكن أن يدفعه إلى المهادنة، وأن أداء حق الشعر يبدأ من أداء واجب الالتزام السياسي والاجتماعي بوصفه التزاما بالفن الشعري في معناه القومي.




بيان الثقافة-الأحد 16 يونيو 2002
المصدر : تشكيل الشعر (http://forums.3roos.com/www.jehat.com/ar/amal/page-8-5.htm)

Anfas Elfajer
12/07/2012, 08:10 PM
أمل دنقل.. شاعر الرفض العربي يعود في ذكراه
_____________________________

إنه "ليس بحاجة إلى أن نمدحه فالجميع مسلٌمون بعبقريته"، هكذا تكلّم الشاعر المصري عبد المعطي حجازي عن أمل دنقل شاعر المقاومة والتمرّد، خلال الحفل الذي أقامته مكتبة الاسكندرية احتفاء بالذكرى السبعين لميلاد صاحب الروائع الوطنية المصرية العربية.


لفيف من الشعراء والمثقفين شهدوا هذا الحفل اعترافا منهم بمكانة هذا الشاعر الذي غادر دنيا العرب ولم يكد يتمّ عقده الرابع بعد، تاركا وراءه ثروة شعرية ملتزمة لا تقدّر بثمن، وقد خصص منظمو الحفل أمسية شعرية ضمت القصائد المغناة من شعر أمل دنقل، بمصاحبة أوركسترا مكتبة الإسكندرية إضافة إلى عرض فيلم تسجيلي مدته 30 دقيقة يتضمن لقطات عن حياة الشاعر وذكرياته عن بداياته وتقبله للمرض ورؤيته للشعر وللعالم من حوله.


وتحدث رئيس مركز الفنون بمكتبة الإسكندرية شريف محيي الدين عن أهمية دنقل شاعرا حتى بعد رحيله في صياغة وجدان الشعراء الشباب جيلا بعد جيل، وعن التعبير بحيوية لافتة عن تحديات الإنسان وآلامه. وأشار إلى قيامه "بتلحين بعض قصائده التي لم يمنعها عمقها الفكري ولا رصانة لغتها من أن تكون بلغة موسيقية، الأمر الذي أدهش الفنانين في إمكانية إخضاع هذا الجبروت الشعري بصرامة لغته وعنفوان صوره وحواره العميق مع التاريخ للتلحين والغناء".


فيما انتقد أنس دنقل إهمال النقاد للعديد من الجوانب المضيئة في حياة شقيقة وعدم تناولها بالتحليل والدراسة، "حيث تقطع كل الدراسات جذوره في الصعيد، معتبرين أن مواقف أمل السياسية مختلفة عن مواقفه الاجتماعية والشخصية، رغم أن تعبيره عن الواقع السياسي هو تعبير عن ذاته وشخصيته ألمتمردة على كل أشكال السلطة والقمع". أما الكاتب علاء خالد فقال "تعرفت على قصائد أمل دنقل في المرحلة الجامعية وكنت أرى في شعره مرجعا تاريخيا عربيا لما فيه من موهبة خاصة، وقدرة على الارتجال الشعري"، مشيرا إلى أنه "شاعر عصي على التصنيف، فقد جمع في مشروعه كل المتناقضات وجعلها كلاً متماسكاً، وهو الشاعر الذي كان صوت المشروع القومي".


وأحيا اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات في مقره بالشارقة ذكرى ميلاد دنقل بندوة عربية شارك فيها الشاعر والناقد العراقي علي جعفر العلاق والناقد عمر عبد العزيز، من اليمن، والشاعرة السورية غالية خوجة والشاعر أيمن فرماوي، من مصر، وأدار الندوة الدكتور إبراهيم الوحش.


وأشار الدكتور عمر عبد العزيز في ورقته إلى أن شعرية أمل دنقل تنطوي على حداثة بنيوية لا منطقية فضلا عن التدوير الملحمي في قصائده التي أسست لاستشرافه للتاريخ وهذا الذي استدعاه ليمنح القصيدة زمنا وإبداعا بلغة شعرية رشيقة وانسيابية.. وقال ان شعر أمل دنقل قد مد جسرا بين الحقيقة والشعر. من جانبه قال الدكتور علي جعفر العلاق في ورقته التي قدمها تحت العنوان "ماذا تبقى لنا من أمل دنقل" إن شعره ما زال متوهجا وحار العاطفة ويقترب من المباشرة في المعنى أحيانا إلا أننا في حاجة اليوم إلى شاعر بموهبة أمل دنقل إزاء الكثير من الادعاء وفي حاجة إلى انفعاله العميق وفروسيته الصلبة في مقابل التدجين وجمود الذات وضمورها الوجداني في هذه الايام وكذلك ارتباطه بالتراث في مقابل إحداث القطيعة معه. وأضاف الدكتور العلاق أن الصدق العالي في شعر أمل دنقل جعلنا نؤجل مطالبنا الجمالية مدللا علىذلك بالمقارنة بين قصيدة له وأخرى للشاعر محمد مهدي الجواهري وتتعلق بتوظيف التراث وتحديدا معركة مؤتة.


ولا يختلف اثنان في موهبة أمل دنقل الشعرية ولا في قوة كلماته وصوره المعبرة، وتتفق كلّ الآراء على ما جاء في مداخلة الشاعر أيمن فرماوي عن أمل دنقل الإنسان حيث تتطابق صورته مع صورته كشاعر فلا فرق بينهما؛ لقد جاء أمل دنقل من الشعب وعاش بين الناس ومعهم ولد فقيرا مثلهم وعاش فقيرا بينهم، فأحس بمعاناتهم وتجرّع من نفس كأسهم التي زادتها مرارة خيبات عربية متواصلة لم تستحملها نفسية الشاعر الرقيقة فحوّل هزيمة السلاح إلى "نصر" بالكلمات، إلا أن المرض "رحمه" من أن يعيش لزمن حتى الكلمات لم تعد تشفي الغليل.


وعن تجربته الشعرية تحدّثت الشاعرة غالية خوجة من خلال بحث بعنوان "صمتيات اللون النشوان" فقالت إن ذاكرة دنقل تتفتح على هيئة صمت جدلي يمحو ما كتب ليتغلغل في ماهية الأشياء علّه إن فعل ووصل إلى ما بعد حافة الحلم المشرفة على الهاوية من جهة وعلى الغامض من جهات كثيرة. وأضافت أن تجربة أمل دنقل تتسم بشعرية تغلّف الحدث بانسياب تنتجه علائق اللغة العذبة وبالتشويش الذي يفارق ميول العلائق حين يفاجئها برغبتها المتناسجة مع اللامتوقع وهنا يتحول الحدث الشعري إلى مجازات تحتكر حيزا ناطقا في قاع النص يغير حناجره مع كل ذبذبة تتراكم كمرايا لوجوه الحياة والمعيش اليومي بين دلالات متنوعة لمفرداته.


ولد أمل دنقل في العام 1940 في قرية القلعة في محافظة قنا في صعيد مصر، وبدأ يشتهر في المشهد الشعري المصري بعد نشر احد قصائده للمرة الأولى في مجلة "سنابل" التي كان يصدرها الشاعر محمد عفيفي مطر من محافظة كفر الشيخ. وقبل أن يبلغ الثلاثين من عمره اصدر ديوانه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" وتلته دواوين "تعليق على ما حدث" و"مقتل القمر" و"العهد الآتي" ليختتم حياته الشعرية بعد إصابته بمرض السرطان العام 1979 بإصدار ديوانه الأخير "غرفة رقم 8" الذي بثّ فيه آخر لحظاته ومعاناة نفس الشاعر الرقيقة مع هذا المرض الذي نخر جسمه لمدة ثلاث سنوات، و"الغرفة رقم 8" هو رقم غرفته في المعهد القومي للأورام، وكان آخر ما كتب في "الغرفة رقم 8" قصيدة "الجنوبي"التي أهداها لصديقه القاص يحيى الطاهر عبد الله والتي يقول فيها:


وجه


كان يسكن غرفتي


وأسكن غرفته


نتقاسم نصف السرير


ونصف الرغيف


ونصف اللفافه


والكتب المستعاره


هجرته حبيبته في الصباح


فمزق شريانه في المساء


ولكنه بعد يومين


مزق صورتها


واندهش


خاض حربين بين جنود المظلات


لم ينخدش


واستراح من الحرب


عاد ليسكن بيتا جديدا


ويكسب قوتا جديدا


يدخن علبة تبغ بكاملها


ويجادل أصحابه حول أبخرة الشاي


لكنه لا يطيل الزياره


**


عندما احتقنت لوزتاه


استشار الطبيب


وفى غرفة العمليات


لم يصطحب أحدا غير خف


وأنبوبه لقياس الحراره


فجأة مات!


لم يحتمل قلبه سريان المخدر


وانسحبت من على وجهه


سنوات العذاب


عاد كما كان طفلا


يشاركنى في سريري


وفى كسرة الخبز


والتبغ


لكنه لايشاركني


في المراره!


عاصر دنقل الثورة المصرية وتشرّب من مناهل القومية والعروبة وصُدِم ككل المصريين بانكسار مصر في 1967 وعبر عن صدمته في قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" ومجموعته "تعليق على ما حدث". كما عرف عنه معارضته الشديدة لاتفاقية" كامب ديفيد" ولاقت قصائده التي هاجم من خلالها الرئيس الراحل أنور السادات مباركة كبيرة من قبل الشارع العربي التي أحس أنها لسان حاله الذي نطق بكل ما يختلج صدره وعجز عن قوله، وقد كان موقفه هذا المعادي لـ"اتفاقية السلام" سببا في اصطدامه مع السلطات المصرية بعد أن أصبحت أشعاره يردّها آلاف الطلبة والمتظاهرون. وقد فجّرت هذه المعاهدة رائعته الشعرية الخالدة "لا تصالح":


لا تصالحْ !


.. ولو منحوك الذهب


أترى حين أفقأ عينيك،


ثم أثبت جوهرتين مكانهما..


هل ترى..؟


هي أشياء لا تشترى .........!


***


.....


لا تصالح على الدم .. حتى بدم!


لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ


أكلُّ الرؤوس سواء.... أقلب الغريب كقلب أخيك؟!


أعيناه عينا أخيك؟!


وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك


بيدٍ سيفها ......... أثْكَلك؟..


***


....


لا تصالح


ولو توَّجوك بتاج الإمارة


كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟


وكيف تصير المليكَ.


على أوجهِ البهجة المستعارة؟


كيف تنظر في يد من صافحوك..


فلا تبصر الدم..


في كل كف؟


إن سهمًا أتاني من الخلف..


سوف يجيئك من ألف خلف


فالدم - الآن - صار وسامًا وشارة


لا تصالح،


ولو توَّجوك بتاج الإمارة...


***


...


لا تصالحْ


فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ


)في شرف القلب(


لا تُنتقَصْ


والذي اغتالني مَحضُ لصْ


سرق الأرض من بين عينيَّ


والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة !

رحل أمل دنقل عن دنيانا في 21 مايو?آيار عام 1983 عن عمر 43 عاما بعد صراع مرير مع مرض السرطان، ودفن بمسقط رأسه في "قفط" في مقابر أسرته وأقيمت له جنازة بسيطة بحسب وصيته القصيرة جدا: "لا حزن ولا بكاء فقد حزنت وبكيت في حياتي ما يكفى.. أوصيكم بأن تكتبوا على قبري هذا قبر فلان ابن فلانة بن فلان وكل من عليها فان"، وعلى الرغم من مرور سبعة وعشرين سنة على رحيل أمير شعراء التمرد الشاعر أمل دنقل لاتزال قصائده حية لملكتها الفنية ولمعانيها الشعرية العميقة وأيضا لأن الوضع العربي لا يزال على حاله تلك التي انتقدها أمل دنقل في قصائده



المصدر : المتوسط أون لاين (http://go.3roos.com/jh2oaetsx4z)

Anfas Elfajer
22/07/2012, 03:43 AM
جديد الوثائقية: بصمات.. الشاعر أمل دنقل
فيلم تسجيلي عن الشاعر
_______________________________





"لا تصالح".. قصيدة ارتسمت في ذاكرة الشعب المصري والعربي وأصبحت عنوانا لموقف وقضية ومسار.. ولكنها صرخة شاعر طبع بكلماته ثقافة مرحلة بأكملها..أمل دنقل.. ذلك الرجل النحيل ، الحاد الطبع إلا مع من يحب، وغير الوسيم كما ينبغي لكنه جعل من وسامة اللغة رداء له يتجلل به في حياته ويخلد به بعد مماته.
ضمن سلسلة بصمات التي أطلقتها قناة الجزيرة الوثائقية هذه السنة، للتعريف بالعظماء في ميادينهم، يأتي هذا الفيلم عن الشاعر المصري الكبير أمل دنقل.



يغوص الفيلم في تفاصيل الحياة التي عاشها الشاعر ويروي سيرته في شكل ملحمة شعبية مصحوبة بصوت الربابة وشدو المنشد الحزين. ينشد المنشد سيرة أمل مثلما ينشد صاحب السيرة الهلالية بطولة الزناتي خليفة.
نتعرف من خلال الفيلم على الأصول الاجتماعية لأمل دنقل القادم من الصعيد ونستمع إلى رفقاء دربه ومنهم عبد الرحمان الأبنودي الذي يروي بطريقته الجميلة تفاصيل حميمية من شخصية رفيقه وجاره في قرى الصعيد الهادئة والمنسية. ينجح الفيلم في تقديم التحولات الكبرى في حياة الرجل في وقت وجيز وصورة معبرة وموسيقى أخاذة.

لقد توفق مخرج الفيلم أيمن الجازوي وزوجته كريستينا بوكيليني في كتابة سيرة أمل دنقل بلغة سينمائية رائعة وبحس توثيقي خفيف على المتلقي فجمع الفيلم بين الشعر والغناء والسيرة الشعبية وخيال الظل والفن التشكيلي فتشعر بأن الكاميرا لم تتحمل وحدها عبء التصوير والتعبير بل تقاطعت مع فنون أخرى متداخلة تعكس شخصية الشاعر وتقلباته وثراء شعره وتجربته.





المصدر : الجزيرة الوثائقية (http://go.3roos.com/oc86csch2sw)

Anfas Elfajer
22/07/2012, 03:56 AM
أمل دنقل ينتصر على الموت بقصائد "الغرفة 8"
____________________________

القارئ لديوان أمل دنقل أوراق "الغرفة 8"، سيلاحظ هيمنة وطغيان ثيمة الموت، وتتكرر مفردة الموت ومشتقاتها كالرصاص، الدم، السكين، التراب… في القصيدة الواحدة أكثر من مرة، وهذا يعزى إلى الظروف النفسية للشاعر، وهو ينتظر الموت كخلاص من عذابات السرطان الذي نخر جسده النحيل، أمّا كشاعر فقد انتصر على المرض الخبيث، وترك للأجيال هذا الديوان الخالد في القلوب، والغرفة "8" أقام فيها أمل دنقل أكثر من عام ونصف العام بمعهد السرطان، وفي قصائده ذلك الوعي الشقيّ والحادّ لدى المبدع مرهف الإحساس، الذي يدرك بحدسه أنّ أيّامه في الدنيا صارت معدودة، وقد ألفيتني مشدوها أمام صوره الشعرية النابضة:

هل أنا كنت طفلا…
أم أن الذي كان طفلا سواي؟

وهو الجنوبي الذي يخشى قنينة الخمر والآلة الحاسبة، ويشتهي أن يلاقي “الحقيقة والأوجه الغائبة”، ولعلّ قصيدة “الجنوبي” عكس بقية قصائد الغرفة “8″ موغلة في الأسى والانهزامية، كأنما الشاعر يرفع الراية البيضاء، وينتظر مصيره المحتوم.

في قصيدة "ضد من": يقف حائرا أمام البياض : "كل هذا البيّاض يذكرني بالكفن"، نقاب الأطباء، لون المعاطف، تاج الحكيمات وأردية الراهبات، أربطة الشاش، القطن، قرص المنوم، أنبوب المصل، كوب اللبن"الحليب". كل هذا البياض، حتى لو كان رمزا للنقاء والبراءة والطهر، يشيع في قلبه الوهن.

بيد أن ما يثير الدهشة، أنه في مقابل هذا البياض الرهيب، يأتي المعزون متشحين بالسواد!، فهل السواد/ لون الحداد لون النجاة من الموت، تميمة ضد الزمن؟ أم ضد من؟ يتساءل الشاعر، وبين اللونين يستقبل أصدقاءه، الذين يرون في سريره قبرا، وحياته دهرا، وفي العيون العميقة لون الحقيقة، ولون تراب الوطن.
ورغم ما قيل عن أمل دنقل، ونعته بالشاعر الصعلوك، فقد بقي وفيّا لقضية شعبه، للبسطاء الذين كان واحدا منهم، عميق الارتباط بوعي القارئ ووجدانه، كما تشي بذلك قصائده اللاذعة، وعفوية التعبير، دون الاختباء خلف بهرجة الألفاظ، وتزييف الحقائق، كما يفعل الكتبة والمتشاعرون.

في "زهور": كتب برهافة الشاعر الذي يلتقط كل ما هو منسيّ ومهمّش في الحياة اليومية، ولا يهتم به الآخر. كتب عن الزهور التي تجود بأنفاسها الأخيرة، ما "بين إغفاءة وإفاقة"، يستحضر رحلة الموت، التي تبدأ بقطفها، وانتزاعها من عرش جمالها، و تحويلها إلى مجرد شيء للزينة، يخضع لمنطق البيع والشراء، في زمن تعليب و تسليع كل شيء!

"السرير": رغم أن هذا الجماد/ السرير جرّده من إنسانيته، من هويته وصار شاعرنا مجرد رقم، وبيانات على ورق صقيل معلّق على واجهة السرير، فإن أمل دنقل يؤنسن هذا السرير، إنه كبقية الأسرّة، لا يستريح لجسد حتى يألفه، إذ سرعان ما يغادر من ينام فوقه، بالانغماس في نهر الحياة، وصخب اليوميّ أو ينحدر جهة القبر، هما طريقان لا ثالث لهما.

"ديسمبر": يشبّه الشاعر الموت بطائر الرخ، الذي تهديه الراهبات التوابيت و"المبادلة الخائبة"، يحبّ ظلمة العدم الآسنة، يتلقى النفايات تلو النفايات دون كلل، ولا يحب المطر، ولا أن يتطهر بـ "الرقة الفاتنة".

ديسمبر، إنه شهر الوداع والرحيل، ويثير في النفس شجنا وأسى غامضا لدى الأسوياء، بالأحرى شاعر عليل يترقب لحظاته الأخيرة. هذا الموت الذي لا يحبّ البساتين، ولا فصل الربيع.. هو صديق للخريف والنهايات وذبول الأوراق والغبار وتعفن الثمار والجدران المتآكلة.. إنه مثل فصل الخريف، الذي لا يحبه أحد، لأنه مرادف للموت.

ومن قصائد الديوان الجارحة بمتقابلاتها وأضدادها "الطيور"، حيث يقارن بين الطيور التي لا تغادر علياءها، ولا تستكين للناس، بعكس الدواجن التي تقأقئ حول الطعام المتاح، وتنتظر "سكينة الذبح" من اليد الآدمية التي تهب القمح، و" تعرف كيف تسن السلاح " أيضا.

الطيور الأولى لا تحتوي الأرض جثمانها إلا عند الاستقرار النهائي، مع السقوط الأخير، وكأن الدواجن علمت سلفا بأن "عمر الجناح قصير..".

هي رؤية للموت من خلال التحليق/ الحياة/ الاندفاع ، وكأن الشاعر تلبسته روح المعري في هذا النص.

"الخيول": كانت برية طليقة، وصارت للرهان، السباقات، المركبات السياحية، و التقاط الصور…
و"في بكائية لصقر قريش" يتساءل أمل:

فمتى يقبل موتي…
قبل أن أصبح – مثل الصقر-
صقرا مستباحا؟!

في"قالت امرأة في المدينة": كتب عن جيل الإحباط والخيبة، والقدس التي لم تُرَ إلا في الصور، والمعتقلين السياسيين الذين يحفرون أسماءهم بأظافرهم على جدران الزنازن المعتمة، و"الصور المنزلية للشهداء" التي يعلوها الغبار، ولا أحد يلبي نداء القدس السليبة غير صورة الجد وسيفه الصدئ المعلقين على الجدار، وهو نفس المشهد الذي استهلّ به القصيدة.

وفي قصيدته "إلى محمود حسن إسماعيل" يستحضر وجوه الغائبين، وألفة الوطن التي ترحل من العين، والاغتراب:

نتغرب في الأرض. نصبح أغربة في التآبينِ ننعي
زهور البساتين.


لــ / هشام بن الشاوي
المصدر (http://go.3roos.com/tnibjhdao29)

Anfas Elfajer
22/07/2012, 10:03 AM
د / جابر عصفور لجريدة البيان
___________________

أمل دنقل (1940 - 1983) واحد من أبرز الشعراء العرب في عالم مابعد كارثة العالم السابع والستين. ولا تحتسب المكانة، في هذا السياق، بالكم الشعري الذي كتبه الشاعر، أو الدواوين التي أصدرها، فأعمال أمل دنقل قليلة مثل عمره القصير، ولكنها أعمال متميزة بماتنطوي عليه من انجاز ودلالة، ابتداء من ديوان (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) الذي لفت اليه أنظار الأمة العربية عام 1969، وكان بمثابة احتجاج وإدانة للعالم الذي أدى الى هزيمة يونية 1967، مرورا بديوان (تعليق على ماحدث) عام 1971 الذي كان استمرارا لاتجاه الديوان الأول،

وكذلك ديوان (العهد الآتي) الذي صدر عام 1975 والذي وصلت فيه تقنية الشاعر الى ذروة اكتمالها. وأخيرا ديوان (أوراق الغرفة 8) في عام 1983 وقد أصدره أصدقاء الشاعر بعد وفاته بشهور، وأشرفت على طباعته بنفسي في (هيئة الكتاب) مع تقديمي له، وصدر بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته، وتولت عبلة الرويني الاشراف على طباعة ماأتمه من (أقوال جديدة عن حرب البسوس) الذي صدر عن دار المستقبل العربي في القاهرة عام 1984، قبيل نشر الأعمال الكاملة التي أشرفت عبلة الرويني على أكثر من طبعة لها.
هذه الأعمال القليلة، نسبيا، تنطوي على عالم توازى خصوصيته وأهميته في تاريخ الشعر العربي المعاصر، فهي أعمال شاعر وصل بالمحتوى السياسي للشعر الى درجة عالية من التقنية الفنية والقيمة الفكرية، وذلك الى الحد الذي يمكن أن نقول معه أن شعر أمل دنقل هو المجلى الحداثي للتمرد السياسي في الشعر العربي المعاصر. هذا التمرد قرين رؤية قومية دفعته الى اختيار رموزه من التراث العربي، والتعبير بها عن هموم العرب المحدثين، وذلك بما يجعل من هذه الرموز مرايا ينعكس عليها التاريخ الحديث بما يبين عن هزائمه خصوصا من الزاوية التي تبرز تضاده مع أمجاد الزمن العربي القديم، أو من الزاوية التي تبرز المشابهة بين انكسارات الحاضر وانهيارات الماضي وفجائعه. وقد اقترنت هذه العودة الى الرموز التراثية بصياغة أقنعته من الشخصيات التاريخية ذات الدلالات المضيئة في هذا التراث القادرة على اثارة الشعور واللاشعور القومي لجماهير القراء العرب.
ويتميز شعر أمل دنقل بخاصية بارزة تتصل بمحتواه القومي من هذا المنظور، فهو شعر يتحدث - في جوانبه الحاسمة - عن الصراع العربي الإسرائيلي، الأمر الذي يجعله شعرا صالحا لهذه الأيام التي نعيشها في ظل الهيمنة الأمريكية والغطرسة الإسرائيلية، كما يجعل منه شعرا جديرا بأن نسترجعه ونستعيده مع شعورنا الغالب بالوجع الفلسطيني، ومع احساسنا بالعجز عن الدفاع عن حقوقنا العربية واسترداد ماسلب منها. والحق أن شعر أمل دنقل تتكشف قيمته على نحو اضافي مع مانعانيه، ومع كل مايؤكد لنا صدق هذا الشعر في تعبيره عن الهزائم المتلاحقة التي يمر بها العرب، خصوصا بعد أن استغلت اسرائيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر الماضي، وأقنعت أمريكا بمساعدتها في محاربة الارهابيين الفلسطينيين. وأقبلت أمريكا على مساعدتها، غير عائبة بالتفرقة بين الارهاب الذي يقوم على دعاوي باطلة، وينتهي بتدمير كل شيء، والكفاح الوطني من أجل الاستقلال. وكانت النتيجة أن أصبح الفلسطينيون الذين يقاتلون من أجل استقلال وطنهم، ومن أجل استعادة حقوقهم السليبة، ارهابيين مطاردين من إسرائيل ومن راعيتها الكبرى أميركا.

هكذا، نعاني نحن العرب في هذه الأيام حالاً أشبه بحال الهزيمة، فإسرائيل تعربد في الاراضي المحتلة، وترتكب من المذابح مايندى له جبين الإنسانية، وما من قوة عربية تستطيع أن تواجهها، أو ترد على عدوانها، الأمر الذي ترك مرارة الهزيمة العربية على كل الألسنة. ولذلك لا يملك المرء سوى تذكر قصائد أمل دنقل عن الصراع العربي الإسرائيلي، خصوصا أن ذكراه التاسعة عشرة تلح في هذه الأيام، فقد توفى في الحادي والعشرين من مايو سنة 1983.

وأتصور أن القصيدة الأولى التي ترد على الذهن من شعر أمل، في هذا السياق هي قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) وهي قصيدة دالة في ادانتها للأنظمة التي أوقعت الهزيمة بشعوبها، ودالة على أن الهزيمة تتخلق في الداخل قبل أن تأتي كالعاصفة الجائعة من الخارج، ودالة على أن الشعوب المحكومة لا تملك سوى البكاء عندما تشعر بهوان وضعها، ولكن من الزاوية التي تجعل من بكائها تمردا على كل من تسببوا في هزيمتها.

والواقع أن قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) أهم قصائد أمل بعد هزيمة العام السابع والستين. جذبت الأنظار إليها والى شاعرها، وذلك عندما أعادت الى الاذهان مأساة (زرقاء اليمامة) التي حذرت قومها من الخطر القادم فلم يصدقوها، كأنها صوت الابداع الذي كان يحذر من الخطر القادم في العام السابع والستين فلم يصدقه أحد الا بعد أن حدثت الكارثة. واذ أكد (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) التشابه بين الماضي والحاضر، فإنه أكد الهوية القومية لشعر أمل دنقل من حيث وصل الرموز بجذورها في التراث العربي الذي يصل بين المبدع والقارئ، ومن حيث ربط هذه الهوية برؤية لا ترى امكانا للمستقبل الا بنهضة قومية تستعيد أعظم ما في الماضي من خبرات وتتجاوز مافي الحاضر من ثغرات.

ولا شك أن جانبا لافتا من التأثير الذي تركته هذه القصيدة يرجع الى طبيعة الصوت الذي ينطقه القناع بها، فهو صوت المواطن العربي البسيط الذي يقف أعزل بين السيف والجدار، يصمت كي ينال فضلة الأمان، كأنه عبد من عبيد عبس يظل يحرس القطعان، يصل الليل بالنهار في خدمة السادة، طعامه الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة. وحين تقع الواقعة لا يملك هذا العبد سوى التوجه الى (زرقاء اليمامة) التي هي مثله بمعنى من المعاني، كي ينفجر في حضرتها بالكلمات التي تقول:

أيتها العرافة المقدسة
جئت إليك.. مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والاعضاء
اسأل يازرقاء
... ...
كيف حملت العار
ثم مشيت، دون أن أقتل نفسي، دون أن أنهار
ودون أن يسقط لحمي من غبار التربة المدنسة.

هذا العبد الذي ينطق في القصيدة كان يجسد صوت الشاعر من ناحية، وصوت المواطن العربي المسكين الذي مزقته الهزيمة من ناحية ثانية. ولذلك اتحدت جماهير القراء بصوت هذا العبد العبسي البائس الذي دعى الى الميدان والذي لا حول له ولا شأن، فانهزم وخرج من جحيم هزيمته عاجزا، عاريا، مهانا، صارخا، كأنه صدى يجسد ما في داخل كل قارئ عربي للقصيدة في الوقت الذي كتبت فيه. وإذا كان صوت هذا العبد العبسي شاهدا على الهزيمة فإن بكاءه في حضرة زرقاء اليمامة، العرافة المقدسة،
شاهد على مايمكن أن يفعله الشعر في زمن الهزيمة، خصوصا من حيث هي صورة أخرى من هذه العرافة: يرى ما لا يراه الآخرون ويرهص بالكارثة قبل وقوعها، وينطق شهادته عليها وقوعها، ويتولى تعرية الأسباب التي أدت إليها، غير مقتصر على الإدانة السلبية في سعيه الى استشراف أفق الوعد بالمستقبل الذي يأتي بالخلاص.
ولذلك كان بكاء هذا العبد في حضرة زرقاء اليمامة، مثل شهادته، علامة على أسباب الهزيمة التي ترتبت على غياب الحرية والديموقراطية عن قبائل (عبس) العربية، من العصر الجاهلي الى العام السابع والستين، حين كتبت هذه القصيدة، كما كان هذا البكاء تأبينا لزمن مضى، وإدانة لأخطاء زمن لم يخلف سوى الكارثة، وبحثا عن زمن يأتي بخلاص من هذه الكارثة.
وأعترف أنني كلما طالعت شاشات التليفزيون الأجنبية والعربية، ورأيت المذابح البشعة التي ارتكبها الإسرائيليون في حق الشعب العربي الفلسطيني، في رام الله أو نابلس أو جنين أو طولكرم وغيرها من الأماكن الفلسطينية العزيزة، شعرت بالهزيمة والانكسار والعجز ووجدت نفسي استعيد الصوت الصارخ في قصيدة (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) من عجزه ومحنته، ومضيت مثله أسأل عن السواعد المقطوعة التي ظلت ممسكة بالرايات العربية المنكسة، وعن جثث الأطفال ملقاه بين الخيام، وعن وقفة المرأة الفلسطينية بينما الدبابات الإسرائيلية تمضي فوق حطام منازلهم التي هدمتها القذائف الغادرة، فأقول لنفسي الى متى نحمل - نحن العرب - هذا العار؟ الى متى؟!


المصدر : موقع الدي في دي العربي (http://go.3roos.com/l4n2lbjmsfu)

Anfas Elfajer
22/07/2012, 10:23 AM
أمل دنقل.. وميض تغتاله العتمة
____________________

خيري حسين - باحث مصري

محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل من مواليد قرية "القلعة" إحدى قرى مديرية "قنا" أقصى جنوب مصر، ولد في 1941 لأب يعمل مدرسًا للغة العربية متخرجًا في الأزهر.
كان والده في تنقل ما بين قرية "القلعة" وإحدى مدن "قنا"؛ فهو في فترة الدراسة يقيم بالمدينة، يعمل بالتدريس، وحين تنتهي الدراسة يعود أدراجه بأسرته المكونة من ولدين وبنت، أكبرهم أمل وأصغرهم أنس.. وهذا التنقل قد أثّر في طبيعة أمل كثيرا فيما بعد.
وكأن الألم هو الحضانة الأولى للعظماء، فلم يكد أمل يتم العاشرة من عمره حتى مات والده. وحرصت أمه الشابة الصغيرة التي لم تكن قد جاوزت النصف الثاني من عقدها الثالث على أن يظل شمل أسرتها الصغيرة ملتئمًا، مع عناية خاصة توليها لمستوى الأولاد الاجتماعي من حيث حسن المظهر والتربية وعلاقاتهم وأصدقائهم.
ساعدهم على العيش "مستورين" أن الأب قد ترك لأولاده بيتًا صغيرا في المدينة يقطنون في طابق منه ويؤجّرون طابقًا آخر، كما عاون الأم في تربية أولادها أحد أقرباء زوجها كان بمنزلة عم "أمل".
حين التحق أمل بمدرسة ابتدائية حكومية أنهى بها دراسته سنة 1952 عُرف بين أقرانه بالنباهة والذكاء والجد تجاه دراسته، كما عُرف عنه التزامه بتماسك أسرته واحترامه لقيمها ومبادئها؛ فقد ورث عن أمه الاعتداد بذاته، وعن أبيه شخصية قوية ومنظمة.

آثار الطفولة
والمفارقة أنه حين وصل للمرحلة الثانوية بدت ميوله العلمية، وهيأ نفسه للالتحاق بالشعبة "العلمي" تمهيدًا لخوض غمار الدراسة الأكاديمية في تخصص علمي كالهندسة أو الكيمياء، لكن العجيب أن أصدقاءه قد أثروا كثيرا في تحوله المعاكس إلى الأدب والفن في هذه الفترة ؛ فقد كان من أقرب أصدقائه إلى نفسه "عبد الرحمن الأبنودي" –شاعر عاميه مصري- وقد تعرف عليه أمل بالمرحلة الثانوية، و"سلامة آدم" –أحد المثقفين البارزين- فيما بعد، وكان يمت له بصلة قرابة وكان رفيقه الأول في مرحلة الطفولة، وبعد اتفاقهما الدائم على الالتحاق بالقسم العلمي وجدهما قد فاجآه والتحقا بالقسم الأدبي، فوجد "الصغير" نفسه في حيرة شديدة، سرعان ما حُسمت إلى اللحاق بأصدقائه.

إلا أن ذلك لا يعني أنه كان بعيدا عن مجال الأدب، فضلا عن الثقافة العربية؛ فقد نشأ في بيت أشبه بالصالونات الأدبية، فلم يكن والد أمل مدرسًا للعربية فحسب، ولكنه كان أديبًا شاعرًا فقيهًا ومثقفًا جمع من صنوف الكتب الكثير في سائر مجالات المعرفة؛ لذا فقد تفتحت عينا الصغير على أرفف المكتبة المزدحمة بألوان الكتب، وتأمل في طفولته الأولى أباه وهو يقرأ حينا ويكتب الشعر حينا.
لهذا كله ولموهبته الشعرية الباسقة لم يكد أمل ينهي دراسته بالسنة الأولى الثانوية إلا وكان ينظم القصائد الطوال يلقيها في احتفالات المدرسة بالأعياد الوطنية والاجتماعية والدينية.
وهذه المطولات أثارت أحاديث زملائه ومناوشاتهم بل وأحقادهم الصغيرة أحيانا، فبين قائل بأن ما يقوله "أمل" من شعر ليس له، بل هو لشعراء كبار مشهورين استولى على أعمالهم من مكتبة أبيه التي لم يتح مثلها لهم، أما العارفون بـ"أمل" والقريبون منه فيأملون – من فرط حبهم لأمل- أن يكون الشعر لوالد أمل دنقل، عثر عليه في أوراق أبيه ونحله لنفسه شفقة على أمل اليتيم المدلل الذي أفسدته أمه بما زرعته في نفسه من ثقة بالنفس جرأته –في نظرهم- على السرقة من أبيه.
ولما أحسّ أمل من زملائه بالشك؛ تفتق ذهنه عن فكرة مراهقة جريئة وهي وإن كانت لا تتسق مع شخصيته الرقيقة إلا أنها فاصلة.. أطلق موهبته بهجاء مقذع لمن تسول له نفسه أن يشكك في أمل أو يتهمه، ولم يمض كثير حتى استطاع أمل دنقل بموهبته أن يدفع عن نفسه ظنون من حوله. ولما تفرغ أمل من الدفاع عن نفسه داخل المدرسة تاقت نفسه لمعرفة من هو أفضل منه شعرا في محافظته، فلم يسمع بأحد يقول بالشعر في قنا كلها إلا ارتحل له وألقى عليه من شعره ما يثبت تفوقه عليه، وكأنه ينتزع إعجاب الناس منهم أنفسهم.
أحلام وطموحات
ولما لم يكن هناك من يجده أمل مكافئا تاقت نفسه أن يلتقي بالشعراء الذين يرى أسماءهم على الدواوين الراسخة في مكتبته، وانصرف أمل عن أحلامه الدراسية وطموحاته العلمية إلى شيء آخر هو الشعر.
ومما نُشر لأمل دنقل وهو طالب في الثانوية أبيات شعرية نشرتها مجلة مدرسة قنا الثانوية سنة 1956، وكتب تحتها: الطالب أمل دنقل يقول فيها:

يا معقـلا ذابت على أسـواره كل الجنود
حشـد العـدو جيوشه بالنار والدم والحديد
ظمئ الحديد فراح ينهل من دم الباغي العنيد
قصص البطولة والكفاح عرفتها يا بورسعيد

وفي العدد التالي أفردت المجلة صفحة كاملة لقصيدة بعنوان: "عيد الأمومة"، وكتبت تحت العنوان: للشاعر أمل دنقل، وليس للطالب كسابقتها، جاء فيها:
أريج من الخلد .. عذب عطر
وصوت من القلب فيه الظفر

وعيد لـه يهتف الشـاطئان
وإكليله من عيون الزهر...

ومصر العلا .. أم كل طموح..
إلى المجد شدت رحال السفر

وأمي فلسطين بنت الجـراح
ونبت دماء الشهيد الخضـر

يؤجـج تحنانهـا في القلوب
ضرامًا على ثائرها المستمر

وأمي كل بـلاد.... تثـور
أضالعـها باللظى المستطـر

تمج القيود.... وتبني الخلود
تعيـد الشباب لمجـد غبـر

فإن الدمـاء تزف الدخيـل
إلى القبر.. رغم صروف القدر

وتنسج للشعب نور العـلاء
بحـرية الوطـن المنتصـر


حصل على الثانوية العامة عام 1957، والتحق بكلية الآداب 1958. وقد ساعده ذلك على الإقامة في القاهرة لتتاح له فرصة جديدة ونقلة حقيقية في مجال القصيدة الدنقلية كما يقول عنه "قاسم حداد" في مقاله: "سيف في الصدر" في مجلة "الدوحة" أغسطس 1983: "دون ضجيج جاء إلى الشعر العربي من صعيد مصر، وكتب قصيدته المختلفة، وكسر جدران قلعة القصيد كما لم يعهد الشعر العربي القصائد ولم يعهد الكسور".

وهذه قضية أمل الكبرى التي عاش من أجلها كالمحارب تماما، وهو يعبر عن ذلك حين يقول:

كنت لا أحمل إلا قلما بين ضلوعي
كنت لا أحمل إلا قلمي
في يدي: خمس مرايا
تعكس الضوء الذي يسري من دمي
افتحوا الباب
فما رد الحرس
افتحوا الباب ….. أنا أطلب ظلا
قيل: كلا

وانفجر أمل في الشعر بهدوئه العجيب.. فلم يمكث في القاهرة سوى عام واحد؛ إذ رحل عنها 1959 إلى قنا ثانية حيث عمل موظفا بمحكمة قنا، لكن تهويمات الشعر وخيالاته لم تكن تدع مبدعا كأمل لوظيفة رتيبة مملة.. ترك العمل لانشغاله بالشعر والحياة، واستمر شعره هادفا ثائرا على الواقع، وأحيانا ساخرا منه بأسلوب يحيل هذه السخرية إلى إبداع شعري غاية في الشفافية تطلق في ذهن القارئ العديد من المعاني الشعرية.

أمل الثورة

ورغم شعارات ثورة يوليو وانجذاب الكثيرين لها؛ حيث كانت الثورة أمل جموع الشعب الكادح، ومنهم أمل دنقل الفقير ابن أقصى الصعيد.. فإن ذلك لم يخدعه كآخرين، حيث كان متنبها لأخطائها وخطاياها؛ فقد سجل رفضها بعين الباحث عن الحرية الحية لا شعارها؛ ففتح نار سخريته عليها، فهو يرفض الحرية المزعومة التي فتحت أبواب السجون على مصراعيها.. يقول أمل:

أبانا الذي في المباحث، نحن رعاياك
باق لك الجبروت، باق لك الملكوت
وباق لمن تحرس الرهبوت
تفرّدت وحدك باليسر
إن اليمين لفي خسر
أما اليسار ففي عسر
إلا الذين يماشون
إلا الذين يعيشون..
يحشون بالصحف المشتراة العيون فيعيشون
إلا الذين يوشُون
إلا الذين يوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت
الصمت وشمك..
والصمت وسمك
والصمت أنى التفتّ
يرون ويسمك
والصمت بين خيوط يديك المشبكتين المصمغتين
يلف الفراشة والعنكبوت

لم يستقر أمل دنقل في وظيفة أبدا فها هو يعمل موظفا في مصلحة الجمارك بالسويس ثم الإسكندرية، ويترك الوظيفة، لقد اعتاد أمل دنقل الترحال، وربما ورثها من طفولته حال حياة والده، ولكن انغماسه في الشعر قوّى ذلك في نفسه، وجعله يتحلل من قيود المكان وقيود الوظيفة، فقد ترك دراسته في السنة الأولى الجامعية، وترك عمله بقنا، وها هو يترك السويس إلى الإسكندرية، بل يترك العمل الوظيفي ليعلن لنا بنفسه في أخريات حياته أنه لا يصلح إلا للشعر فيقول: "أنا لم أعرف عملا لي غير الشعر، لم أصلح في وظيفة، لم أنفع في عمل آخر…" توصل أمل دنقل إلى ذلك قبل أفول نجمه بثلاثة أيام فقط.
وفي 1969 يصدر الديوان الأول لأمل دنقل بعنوان: "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" تأثرا بالنكسة، وبعده بعامين ينشر أمل دنقل ديوانه الثاني: "تعليق على ما حدث"، ثم يأتي نصر 1973 وعجب الناس من موقف أمل دنقل؛ إذ هو لم يكتب شعرا يمجد هذا النصر حيث يصدر ديوانه الثالث: "مقتل القمر" 1974 دونما قصيدة واحدة تحدثنا عن النصر، وفي 1975 يصدر ديوانه: "العهد الآتي".

عشق الترحال والحياة

وفي أحد أيام سنة 1976 يلتقي أمل دنقل بالصحفية "عبلة الرويني" التي كانت تعمل بجريدة "الأخبار" فتنشأ بينهما علاقة إنسانية حميمة، تتوج بالزواج 1978، ولأن "أمل" كان كثير التنقل والترحال فقد اتخذ مقرًا دائما بمقهى "ريش"، وإذا بالصحفية "عبلة الرويني" زوجة الشاعر الذي لا يملك مسكنا، ولا يملك مالا يعدّ به السكن تقبل أن تعيش معه في غرفة بفندق، وتنتقل مع زوجها من فندق لآخر، ومن غرفة مفروشة لأخرى.
ويستمر أمل دنقل يصارع الواقع العربي بإنتاج شعري مميز فيكتب: "لا تصالح"، رافضا فيها كل أصناف المساومات، متخذا من الأسطورة رمزا كما عودنا من ذي قبل، ولكن أمل دنقل كُتب عليه صراع الواقع العربي الذي ما برح يكتب فيه حتى واجه بنفس قوية وإرادة عالية صراعه مع المرض، ودخل أمل المستشفى للعلاج، وكان لا يملك مالا للعلاج الباهظ الذي يحتاجه في مرضه.
وبدأت حملة لعون الشاعر من قبل الأصدقاء والمعجبين، وكان أولهم "يوسف إدريس" -أديب مصري- الذي طالب الدولة بعلاج أمل على نفقتها.
وطلب أمل من أصدقائه التوقف عن حملة المساعدة. كان أمل لا يريد أن ينشغل أحد بمرضه، وظل أمل دنقل يكتب الشعر في مرقده بالمستشفى على علب الثقاب وهوامش الجرائد.. ولم يهمل الشعر لحظة حتى آخر أيامه، حتى إنه يتم ديوانا كاملا باسم: "أوراق الغرفة 8".
يموت الألم في أمل دنقل مع صعود روحه لبارئها، لكنه يترك تاريخا مضيئا بالشعر وآرائه السياسية التي كانت تصدر عنه بروح القادر ونفس الحر دون أن ينجرف إلى تيار معين يفسد عليه انتماءه للشعر.. ودون أن يترك حدثا بلا قول وخطر، بل وسخرية موجهة.



المصدر : موقع الدي في دي العربي (http://go.3roos.com/l4n2lbjmsfu)

Anfas Elfajer
22/07/2012, 10:38 AM
عن كتاب
"الجنوبي": سيرة دنقل بقلم زوجته
____________________

هيا صالح

رغم أن كتاب "الجنوبي.. أمل دنقل" يبدو للوهلة الأولى سيرة غيرية، إلا أن القارئ، بعد سبر أغواره، ومطالعة صفحاته التي تجاوزت 220 صفحة، يكتشف أنه، بالإضافة إلى ذلك، سيرة ذاتية لعبلة الرويني تحكي فيها تجربتها الشخصية في إطار حديثها عن تجربة أمل دنقل. تلك التجربة الواحدة التي امتزج فيها الاثنان معاً، بحياة تشكلت وفق إيقاعات متنوعة؛ صداقة، حب، زواج، عشق، تكوين عائلة. ولعل هذا الارتباط العميق الذي جمع الاثنين معاً، هو ما جعل نفسيهما نفساً واحدة، ومسيرتيهما مسيرةً واحدة أيضاً.
تتجلى القدرية في السيرة، من خلال حديث الرويني عن مجريات اللقاء الأول الذي جمعها بالشاعر الراحل أمل دنقل في أكتوبر العام 1975، في مقهى "ريش"، حيث كانت عبلة تنوي في بداية عملها بجريدة "الأخبار" إجراء حوار مع أمل، رغم معرفتها مسبقاً بصعوبة نشر هذا الحوار. كان دنقل شاعراً يسارياً، وهو ما أوضحه لعبلة أحد المحررين السياسيين في الجريدة قائلاً: "ربما يمكنهم نشره في طبعة (أخبار اليوم) العربية، فمن الممكن تصدير أمل دنقل عربياً، لكنه غير مسموح باستهلاكه داخل مصر". وقد زادت تلك العبارة من عزم عبلة وتصميمها على حوار أمل وتحدّي سياسة الجريدة: "فلماذا تأخذ الجريدة موقفاً من شاعر؟ بل كيف تأخذ الجريدة موقفاً من عقل الصحفي؟".
وبعد بحثها عن أمل في المقاهي الشعبية، وهي المكان المفضّل لدى الكتّاب والشعراء . تلتقي عبلة به، ويجري الحوار بينهما إنسانياً أولاً قبل أن يكون أدبياً: "قلت: كنت أظنك أكبر قليلاً. ضحك بصوت مرتفع: يبدو أن عندك عقدة ألكترا! ولم أُسْتَفز أيضاً، بل ابتسمت: اطمئن لن أحبك".
وتضيف عبلة: "كان الانطباع الأول الذي كوّنته سريعاً؛ أن هذا الشخص مختلف عن الآخرين، يتكلم لغة أخرى، يسلك سلوكاً آخر، بل ويحسّ أحاسيس أخرى. فمنذ اللحظة الأولى سقطت كل المسافات والادعاءات والأقنعة، وبدا لي وجهُ صديق أعرفه من زمن".
تكمل عبلة حوارها الصحفي مع دنقل، الذي هو أول حوار وآخر حوار يُنشر معه في جريدة "الأخبار". وتتعمق العلاقة بين الاثنين، وتتوالى اللقاءات، ورغم محاولة دنقل ترك مسافة بينه وبينها، إلا أن عبلة تدرك أن هذه المحاولات ما هي إلا اعتراف صريح منه بدفق من العواطف التي تضطرب في قلبه تجاهها. وتكتشف في لحظة تأمل إنسانية أنها هي أيضاً تبادله تلك المشاعر: "قال لي في المرة الرابعة التي التقيت فيها معه، ومن دون أدنى مقدمات: يجب أن تعلمي أنك لن تكوني أكثر من صديقة! حرّك هذا التحذير الاستفزازي انفعالاتي، فبدت عارية: أولاً أنا لست صديقتك، كما أنني لا أسمح لأحد بتحديد مشاعري متى تتزايد أو تتناقص، إنني وحدي صاحبة القرار في علاقاتي بأصدقائي"، وتضيف: "من المؤكد أن أمل أحبني ، وأن غضبي لعبارته يعني أيضاً أنني أحمل له نفس المشاعر".
ووفقاً لمقولة "قل لي من صديقك أقل لك من أنت"، تشير الرويني في "الجنوبي" إلى العلاقات المركّبة التي جمعت أمل بأصدقائه، متوقفةً عند المنظور الإشكالي الذي كان دنقل يرى المحيطين به من خلاله: "إن الضعيف لا أصدقاء له، بينما القوي يتزاحم من حوله الأصدقاء".
فقد احتوت صداقات دنقل، كما توضح الرويني، على كثير من الأشكال المركبة. وكثير من أقنعة الحدّة، والمنازلات الملتهبة، والمشاحنات الكلامية، والمداعبات الشديدة. وقد "ظلت هذه العلاقات شديدة التركيب، حيث تبدو المداعبة حادة بينما يبحث أمل من خلالها عن نوع من الاطمئنان الكامل لا يجده دائماً، أو نوع من الفهم والحب له لم يوفره الآخرون، وربما لم توفره الأيام له شخصياً. ولهذا اتسمت علاقاته دائماً بمزاج ساخر، ومزاج حاد لا يحتوي شراً، بقدر ما يحتوي مرارة الأيام الطويلة". ومن أصدقاء دنقل المقربين، كما توضح الرويني، يحيى الطاهر عبد الله الذي وافته المنية إثر حادث سير ولم يشترك دنقل في مراسم غيابه وكان يقول: "إن يحيى خاص بي وحدي". والدكتور يوسف إدريس الذي جمعت دنقل به علاقة صعلكة، والشاعر نجيب سرور، وجابر عصفور، والكاتبة صافيناز كاظم التي كان دنقل دائم الاستفزاز لها.
أصبح مقهى "ريش" مكانَ اللقاء الدائم، وربما المفضّل، بين العاشقَين؛ أمل وعبلة. رغم ما كانت تبديه عبلة من تحفّظٍ تجاهه في البداية: "أقنعني أمل بالتخلي عن منطقي البرجوازي، وتلك الوثنية التي أمارسها تجاه الأماكن، فلا يوجد مكان نحبه، وآخر نكرهه، هناك فقط شخص يسعدنا الجلوس معه أو لا يسعدنا، وكانت كلماته منطقية وعادلة، فبدا (ريش) معه أجمل وأرقّ الأماكن التي تصلح للقاء عاشقَين".
كانت البرجوازية طريقةً تعيش عبلة في إطارها، لكنها أبداً لم تستحوذ على تفكيرها أو عالمها بالكامل. وهي لذلك كانت مستعدة، كما تقول، لأن تبيع العالم كله من أجل شاعر لم يكن يمتلك غير بنطلون واحد أسود ممزق. "كأن هذا الثقب الناتج من احتراق سيجارة يطل من فوق الركبة، وكان أمل يحاول مداراته دائماً عن عيوني البرجوازية، بينما كنت أبحث دائماً عنه، وأنا أكاد أعتذر عن ملابسي الأنيقة".
لم تكن العلاقة التي جمعت عبلة بأمل، والتي راهن الكثيرون على فشلها، علاقة عادية أو عابرة، ولذا لم يكن من الغريب أن تتّخذ هذه العلاقة فيما بعد، شكلَ الرباط الزوجي المتين، رغم ما كانا يواجهانه من معيقات مادية. يقول أمل: "إنني أتكلم عن راتب شهري يمكن أن يعول أسرة لا بدّ لها أن تأكل وتنام على الأقل. إن اختياراتي ليس عليكِ أن تتحملي تبعاتها وعذاباتها". فترد عبلة: "أمل.. إننا سنتزوج ليس فقط انتصاراً للحب، ولكن، انتصاراً لاختياراتك".
بعد زواجهما، باتا صديقَين لا زوجين، وخرجا على أشكال الزواج التقليدية، حيث أصبح الشارع بيتهما الذي يقضيان فيه جلّ وقتهما. وتصف عبلة علاقتهما الزوجية قائلة: "كان الحب في داخله، وكان التصاقي الشديد به يُشعره كثيراً بالقيد والتوتر والعبء النفسي أحياناً، ولعل مرد ذلك إلى إحساسه العميق الدائم بأنه لم يمنحني راحة، أو أن الحياة ذاتها لم تمنحنا استقراراً".
لم تكن هناك طقوس معينة تلازم دنقل أثناء كتابته للقصيدة، كما توضح عبلة التي رافقته في مشواره الإبداعي والحياتي، سوى توفر السجائر التي ظلت صديقة أمل المقرّبة حتى وفاته. كان مرض السرطان قد بدأ يغزو رئته: "قال له الطبيب: كفّ عن السجائر، قال: إن الكفّ عن السجائر لن يعوق السرطان الهادر في صدري، دعها فهي متعتي الأخيرة".
بدأ السرطان يأخذ من جسد أمل الناحل، فتزداد روحه تألقاً وجبروتاً. وكان يصارع الموت بعناد لا يلين. وكانت مأساة أمل، كما توضح عبلة: "أنه ظل قادراً على حمل البحر، بينما البحر لم يستطع أن يحمله.. أجمل سمكة نادرة في مياهه.. ظل دائماً يبحث عن التوازن الصعب داخل هذا العالم المتواتر والمرفوض حوله، وداخل هذا التناثر الحاد في كيانه حتى انفجر كل شيء.. وتمدد السرطان".
لقد بدأت معاناة أمل مع السرطان بعد مضي تسعة أشهر على زواجه بعبلة، وظل المرض يتمدد، لأن أمل وعبلة لم يكونا يمتلكان "ملّيماً" واحداً من أجرة الطبيب التي بلغت 300 جنيه. وفي ظل الحاجة المادية الملحّة، شعر الاثنان، بجبروت الفقر: "إنها المرة الأولى التي نعرف فيها قسوة الفقر.. المرض هو الحالة الوحيدة على هذه الأرض التي تحول الفقير إلى بائس حين يواجه قدره عاجزاً".
وتروي عبلة قصة علاج دنقل في معهد السرطان، حيث امتدت فترة العلاج لأكثر من سنة ونصف السنة، أعلن الأطباء بعدها، عن حتمية موت أمل. وتسرد عبلة هذه التجربة، بكثير من الحزن، قائلة: "نظر طبيب معهد السرطان إلى تحليل الدم الأخير، ودون أن يدري شيئاً عمّا نعرفه قال: للأسف الشديد لقد أكدت التحاليل إصابتك بالتراتوما، وهو أمر صعب، لم نكن نريده، لكننا سنبذل ما لدينا من أحدث طرق للعلاج". كانت ردة فعل عبلة على كلام الطبيب قوية جداً، ما اضطر الأطباء إلى إخراجها من الغرفة. بينما واصل أمل حديثه مع الطبيب: "لماذا كنتَ قاسياً معها إلى هذا الحد. كان يمكن أن تخبرني وحدي". لقد كان أكثر ما يخشاه دنقل ليس الموت، وإنما بكاء أمه وعبلة عليه.
كان أمل مريضاً استثنائياً، فقد تمت في جسده تجربة علاج إشعاعي هي الأولى من نوعها في الشرق الأوسط، حصل فيها على أكبر نسبة إشعاع ذري مكثف تُعطى لمريض في جرعة واحدة. وخرج من تلك التجربة منتصراً، غير أن الأمر لم يدم طويلاً، إذ أصيب أمل في النهاية بغيبوبة: "هكذا أعلن أمل الموت، لكنه كطبيعته ما زال حتى النفس الأخير، يحلم بالمقاومة. في منتصف الليل، قبيل وفاته بساعات قليلة، زاره ناصر الخطيب مدير مكتب جريدة (الرياض) بالقاهرة. أيقظ أمل من غيبوبته، وهمس في أذنه باكياً: أمل قاوِمْ. فتح أمل عينيه، وبصعوبة في النطق أجاب: لا أملك سوى المقاومة. ثم راح في غيبوبة".
كثير من الأحداث اليومية والتفاصيل الحميمة، في علاقتها بأمل دنقل ضمّنتها عبلة في "الجنوبي"، كما تحدثت عن مشاكلهما وخلافاتهما التي كانت تزيد علاقتهما الزوجية والإنسانية متانة وصلابة. كما ضمَّنت عبلة في "الجنوبي" قصائد ألقاها أمل في مناسبات مختلفة، كانت تتوقف أحياناً لتنقدها أو تعلّق عليها، أو تشرح الموقف أو المناسبة التي قيلت فيها.
وأخيراً، فإن "الجنوبي" هو بمثلبة هدية حب ووفاء من عبلة الرويني إلى رفيق دربها أمل دنقل الذي لم ينجح الموت في تغييبه، وإنما حوّله إلى صوت قوي صافٍ تصدح الأجيال بشعره.


المصدر : موقع الدي في دي العربي (http://go.3roos.com/l4n2lbjmsfu)

Anfas Elfajer
22/07/2012, 11:23 AM
تتـــــــمة
______

هذه مجموعة قصائد الشاعر أمل دنقل وحياته وبعض المقالات عنه

لم تتم إضافة بعض القصائد لاحتوائها على ألفاظ غير مناسبة أو بسبب أن الترميز فيها نوعا غير مقبول

مصدر كل القصائد

الموسوعة العالمية للشعر العربي (http://go.3roos.com/mxi3ms48f4f)


تجميع و إعداد / Anfas Elfajer

ماذا اقول
07/10/2012, 03:22 AM
مشكورة غاليتي على الجهد وألف مبروك الفوز

nice-girl
07/10/2012, 09:34 AM
الف مبروك اختي الغالية وتستاهلين الفوز

yma a7tajk
07/10/2012, 07:47 PM
أشكرك غاليتي
على الطرح المبدع ..
أبدعتِ الطرح والتنظيم
وألف مبارك الفوز تستحقين ذلك
تم التقيم

• :032::f:

Anfas Elfajer
12/10/2012, 04:18 PM
الله يبارك فيكم حبيباتي
ومشكورات على التواجد العطر