المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عمار



بلسم الشرق
02/10/2003, 07:25 AM
كان نشيطاً ويتمتع بحيوية مميزة ، عرفته يوم بدأ عملي في قسم لأمراض الدم في الجامعة ، كان مريضاً ولكنه بنفس الوقت أحد أفراد ذلك القسم ، الجميع يعرفه ، يساعد الممرضات ، يلاعب الأطفال الآخرين ، ويسلي الأطفال الأصغر منه سناً ، يلاطف أهل المرضى ، ويعرف أوقات إعطاء الدواء ، لقد كان محبوباً ، وكان يعيش في عالم خاص مع أصدقائه الأطفال في بيئة هي المستشفى ، استطعت بمرور الوقت أن أكون جزءاً من ذلك العالم الفريد بفرحه الحزين ، وحزنه الصامت ، بحريته في الحلم ، و حلمه بالحرية من قيود المرض .
إنه عمار طفل الثالثة عشر ، الذي عايش الأطباء طويلاً من دون أن يدخل كلية الطب ، لقد كان مصاباً بالداء الخبيث ، وكان عليه أن يتلقى العلاجات المديدة والمتكررة في هذا المكان المحدد وليس سواه ، ومرة بعد مرة صار الصغير يعرف ما له و ما عليه ، يأتي من بيته لوحده ، ويذهب للعيادة المختصة ، ويأتي بأوراقه وملفاته ، و يجهز نفسه للإبر والحقن ، يعرف متى عليه شرب الماء وتناول الطعام ، كان طبيباً صغيراً لنفسه ، ولكن ما حوته نفسه كان أكبر .
كان لعمار ثلاثة أخوة أصغر منه وقد ابتليوا جميعا بذلك السرطان ، وكان عمار بمثابة الأب لهم في أجواء المستشفى ، وكيف لا وهو الذي يخدم كل من يحتاج من المرضى الآخرين .
رأيته ذات يوم يحمل طفلة صغيرة تبكي لأن أمها غفلت عنها لفترة وجيزة وهي تقبِّل ابنها الذي تم تشخيص الداء لديه حديثاً ، وهدأت الطفلة بين يديه وهي تنظر لابتساماته ومناغاته لها ، كما شاهدته ذات مرة يحمل كأس ماء لمريض لم يعد يستطيع انتظار الممرضة المنشغلة بتجهيز الدواء ، و ربما أبصرته أكثر من مرة وهو يرافق ملائكة الرحمة بزيهن الأبيض المخطط بالأزرق الهوائي مقدماً خدمات تنم عن قلب كبير .
كنت أتساءل في نفسي ألا يتعب ذلك الصغير الذي يوشك الداء أن يفتـــك به ؟ ، لماذا يفعل ذلك ؟ ، هل يشعر يما يحدث أو سيحدث ؟ ، هل يعرف ماذا يفعل ؟ ، هل يحق لنا أن نمنعه عن أعمال تسعده ؟ ، لقد كانت أسئلة كثيرة وكلها محيرة ، كنت أرقبه من دون أن يشعر بمراقبتي وهو يأكل ، و أرى كيف أن نظراته تتطاير على صحون أصدقائه ليملأ صحن هذا ، ويطلب من ذاك أن يأكل ، ويقطع الخبز ليقدمه لتلك ، كنت أعرف أن السرطان يعيق الإنسان عن الكثير من الأعمال ، ولكنني تيقنت مع عمار أن الداء الخبيث لا يعيق الإنسان عن إنسانيته ، لقد كنت أرى الفطرة السليمة تتجلى في وجه عمار الذي تساقط شعر رأسه بفعل الأدوية , وكنت أراه كيف يتلقى الدواء بنفس راضية مطمئنة ، لا بل يمازحني و يضحك معي قبل الحقنة وبعدها .
كثيراً ما كنت أجلس مع عمار قي أوقات الفراغ فقد كان نافذة لي إلى عالم الصغار الذي أحببته ، وكان يشاركنا الحوار صغار آخرون أحياناً ، وكنت الصغير الكبير الوحيد بينهم رغم أن عماراً لم يعتبرني كذلك ، كانت حكاياتي تسر بعضهم ، ولكن كان هناك شيء أحاول أن أعثر على إجابة عليه ، لم تكن الإجابة في طيات مجلد أو كتاب ، ولو كانت كذلك لسهل الأمر ، ولم تكن أيضاً لتنطلق على لسان أستاذ يجيد الجمع والطرح ، الإجابة كانت عند عمار .
سألت نفسي يوماً كيف ينظر عمار للأطفال الآخرين ؟ ، لأخوته الصغار ؟ ،لا بل كيف يرى المصير ؟ ، وما هي صورته في نفسه الناصعة البياض ؟ ، وكنت بتلك اللحظة أتذكر يوم التقت عيناي عيني عمار وأنا أحاول تقديم العلاج في لحظات فراق الطفل الوديع " نبيل " ، فهِم مني يومها أكثر مما فهمه أهل الطفل ، لا بل أكثر مما فهمته ذوات اللباس الأبيض الباكيات من حولي ، قرأت في أعماق عينيه ما لا أستطيع كتابته ، وانتزع هو من عيني ما لم أرد أن أبوح به ، دثَّر نفسه بالغطاء الأبيض النظيف الذي طُبِع عليه شعار المستشفى و نام ، هكذا تهيأ لي ، ولكن ربما لم ينم ، ربما كان يفكر بشيء آخر ، ربما كان يتذكر أمه و أباه ، ربما كان يحلم بدفتر مزركش وألوان جميلة هي أغلى ما تكون في تلك اللحظة ، دعوت الله أن يرى في الحلم ما يريد ، وحلمت يقظاً بأنه سيرى نفسه يحلق فوق الغابات والحقول مرتدياً لباساً مطرزاً بالورود ، يطير ويحلق في عنان السماء ، يطاول الكواكب والنجوم وتأتيه نسمات هواء عليل تأخذ منه الداء الوبيل بلا رجعة ، كنت أحلم عنه بشكل غير مشروع ، فالحلم البهي من حقه هو ، ولكن ..
كان يوم أربعاء على ما أذكر ، وكان ذلك اليوم خاصاً بمراجعي عيادة الدم ، ولم نفرغ من العمل إلا في ساعة متأخرة ، جلست بعدها أتصفح كتيباً صغيراً في الغرفة المنزوية ذات الواجهة البلورية ، وجاء عمار ، فسألته لماذا لم تنم حتى الآن يا صديقي ؟ ، فأجابني : اليوم هو يوم الأربعاء ، وفيه يأتينا أصدقاء جدد، ويجب أن أقوم بواجبهم ، قلت : بارك الله فيك يا عمار وعافاك ، سألني سؤالاً أيقظني رغم يقظتي ، قال : هل صحيح أن الطفل محمد قد تعافى ولم يعد بحاجة لأي دواء ؟ ، قلت له : نعم ، و عقبالك يا عمار ، ذلك السؤال أشعرني أن عمار يعرف الكثير ، إنه لا يفكر بلحظته ، إنه يعرف معنى الشفاء التام من الشفاء المؤقت أو عدم الشفاء ، فكرت بذلك سريعاً ، ووضعت الكتيب جانباً، واقتربت منه وسألته : ماذا تريد أن تصبح في المستقبل يا عمار ؟ ، قال لي : أريدكَ أن تصنع دواءً شافياً من السرطان لكل الأطفال ، بكيت من أعماقي في أعماقي وحاولت وضع ستار حديدي أمام تعابيري ، علمت أنه يعلم ما نحاول أن نتناساه أو نخدع الآخرين به بنية بيضاء ، لم أكرِّر السؤال فقد فهمت رسالة الصغير الكبير الثاني ، وبدأ عقلي الباطن يعيد : كل الأطفال … كل الأطفال … كل الأطفال … ، هل يقصد كل الأطفال المصابين ، أم أنه يعرف حقاً أن أي طفل يمكن أن يصاب _ لا سمح الله _ ، لم أستطع بذكائي المحدود في تلك اللحظة أن أجزم بالإجابة ، ولكنه أنقذني من الحيرة عندما قال : متى ستبدأ بمعالجة الطفلة سوسن يا عمو ؟ ، لقد كان يحب ويتألم لكل الأطفال ويخشى عليهم ، تلك هي الحقيقة التي يجب أن أصمت أمامها ، قلت له : غداً صباحاً سنبدأ مشوار علاجها ، ابتسم ، و قال يا رب اجعل مصيرها مثل مصير الطفل محمد ، لقد أحببتها يا عمو ، وحزنت كثيراً لبكاء أمها عندما أخبرتموها باكتشاف المرض لدى ابنتها .
وضعت يدي على كتفه ، وقلت له : ألا تريد أن تنام ؟ ، قال : لقد توفي أخي أحمد منذ سنتين ، و أخي منصور العام الماضي ، و هذا العام سيموت أخي توفيق ، وبعدها الدور عليّ …
لم يستطع الستار الحديدي أن يحجب هذه المرة دموعي ، وقفت … و وقف عمار ... مشى قليلاً … و التفت بعدها إلي ، و رأيت بسمة لن أنساها على محياه الشاحب … تابع خطواته إلى سريره …. تسمّرتُ واقفاً في مكاني ... طأطأت رأسي ...و لهجتُ بالدعاء .
بقلم د.عبدالمطلب بن أحمد السح

&بنونه&
02/10/2003, 09:00 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
قصه جميله ومؤثره جدا جدا في نفس الوقت
شكرا لك أخي على هذه القصه الذي اندمجت وتعمقت معها وأظن انها حقيقيه
الهم شافي جميع المرضى يارب

بلسم الشرق
02/10/2003, 11:53 PM
أختي الفاضلة بنونة
شكرا لمروركم الكريم
نعم واقعية مع بعض التصرف الأدبي.

بلسم الشرق
21/12/2011, 02:13 AM
لا أعرف لماذا تذكرت اليوم هذه القصة
أدعو الله أن يكون فيها النفع راجياً من الله تعالى الشفاء العاجل لكل مصاب بالسرطان إنه على كل شيء قدير

أم نجود الأحساء
22/12/2011, 09:49 PM
قصه مؤثره

ميرسي دكتور

بلسم الشرق
23/12/2011, 12:12 AM
أختي الفاضلة أم نجود الأحساء
بارك الله بكم

عاشقة خلي
08/01/2012, 08:13 AM
يسلمو

nzn_83
08/01/2012, 09:15 AM
يعطيك العافية

بلسم الشرق
11/01/2012, 06:07 PM
أختي الفاضلة بريلنت
بارك الله بكم

بلسم الشرق
11/01/2012, 06:09 PM
أختي الفاضلة nzn
بارك الله بكم

محبوبي1
18/02/2012, 11:09 PM
لا اعرف ماذا اكتب فقد تاثرت كثيرا

اللهم اشفي جميع المرضى

أغلى ذكرياتي أنت
13/03/2012, 07:07 PM
طررررح رائع
يسلمووووووووووووو

بلسم الشرق
10/04/2012, 11:09 PM
الأخت الفاضلة محبوبي 1
بارك الله بكم وشكرا لمروركم الكريم

بلسم الشرق
10/04/2012, 11:10 PM
الأخت الفاضلة أغلى ذكرياتي أنت
بارك الله بكم وشكرا لمروركم الكريم

بلسم الشرق
21/06/2012, 07:16 PM
الأخوات الفاضلات بارك الله مروركن الكريم